ثار جدل في الآونة الأخيرة على خلفية وقوع جرائم قتل في قطاع غزة ، وانطلق الجدل وتقاذف الاتهامات من منطلقات سياسية حمّلت في كثير من الأحيان حوادث لا علاقة لها بالسياسة أبعاداً سياسية.

وكان أن نجحت شرطة غزة في كشف كنه الجرائم والقبض على الفاعلين في زمن قياسي، ما شكل مصدراً للتفاخر والادعاء بأن غزة بألف خير وأن القبضة الأمنية محكمة ولا مجال لشيوع الجرائم في قطاع غزة في ظل قدرة الأجهزة الأمنية.

كما لفتني تجاهل الناطقين باسم الداخلية والأجهزة الشرطية تأكيدهم على أن الأمور في غزة بخير ولا مجال بأي حال لشيوع الجريمة، متغاضين عن واقع القطاع.

وأثار انتباهي تجاهل من وجهوا النقد للأجهزة الأمنية في قطاع غزة ومطالبتهم أجهزة الأمن بكشف الجرائم كثير من الوقائع الموضوعية، أولها أن الوضع في الضفة الغربية حيث أجهزة السلطة ليس أفضل حالاً على صعيد وقوع جرائم القتل على خلفيات مختلفة وجرائم السرقة، وبعضهم كان مدفوعاً بالخصومة السياسية فنسى أن يتناول الواقع الذي يفضي لوقوع الجرائم بموضوعية.

والحقيقة التي تجاهلها الجميع هي أن مجتمع قطاع غزة هو مجتمع إنساني شأنه شأن كل المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ، ويشير التاريخ الإنساني إلى أن المشكلات الاجتماعية تبدأ بالظهور وتتعاظم أو تتضاءل بحسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسة وإلى حد ما الثقافية.

كما تعلو في كل مرة تقع فيها جرائم خطيرة أصوات تطالب بتغليظ العقوبات، وكأن المشكلة فقط في العقوبات، وأصحاب هذه الأصوات يتناسون أنه حتى في صدر الإسلام كانت الظروف الاقتصادية والاجتماعية مبرراً لوقف العمل بالعقوبة الشرعية، وعليه أنا أعتقد أن المشكلة في مكان آخر. فمهما بلغت قوة القبضة الأمنية لن تحول دون وقوع الجرائم، قد تلقي القبض على الفاعلين وتوقع أشد العقاب بهم ولكنها حتماً لن تمنع وقوعها. وكذلك تغليظ العقوبة فليس أقسى من عقوبة الإعدام فهل شكلت ردعاً؟ أنا أعتقد جازماً أنها لم تشكل ردعاً بل هي محفوفة بخطر الظلم في أحكام إذا ما نفذت لا رجعة عنها.

إن المشكلة الأساسية تكمن في تدهور الأوضاع المعيشية ومستوى جودة الحياة، فالفقر والبطالة يضربان أطنابهما في قطاع غزة، فلم تعد نسبة كبيرة من السكان قادرة على تأمين أسباب العيش الكريم، وسط تدهور متسارع في خدمات أساسية ولاسيما خدمة تزويد الكهرباء للمنازل، وغيرها كالرعاية الصحية والمياه والتعليم ... إلخ.

إن وضعاً إنسانياً كارثياً كالذي تعيشه غزة سيدفع إلى تصاعد مشكلات الطلاق وإدمان المخدرات والسرقة بما فيها السرقة تحت تهديد السلاح، ووقوع جرائم القتل على خلفيات مختلفة بما فيها السرقة.

ويجب أن لا نغفل الأبعاد الثقافية في مجتمع ينحو نحو التطرف الديني والقيم المتعصبة، في ظل انعدام قدرة الشباب على الحصول على فرص عمل تؤهلهم للزواج وتأسيس أسر، فما الذي سيمنع العلاقات الجنسية خارج الأطر الشرعية والقانونية، وما الذي سيحول دون أن تلجأ أم لبيع جسدها من أجل قوت أولادها أو علاجهم، أليس البغاء أقدم مهن التاريخ؟ وأليس أهم دوافعه الفقر والعوز والحاجة، قبل أن يكون انحرافاً في السلوك.

عليه أرجو أن نهدأ وأن تسود لغة العقل وأن تتضافر جهود المختلفين في السياسة والمتباكين على واقع الشعب ومعاناته، وأن  يفكروا في حلول عملية تمثل تدخلاً استباقياً يقي المجتمع من شيوع المشكلات الاجتماعية المختلفة وفي مقدمتها الجريمة، وأصبح من نافلة القول أن الحديث على حل وعلاج المشكلات يبدأ بإنهاء الانقسام.

نعم إنها مهمة تبدو مستحيلة في ظل السياقات التي حكمت العلاقة بين حركتي فتح و حماس والأحزاب والحركات الأخرى طوال تسع سنوات من الانقسام، ولكنها تصبح مهمة سهلة وممكنة إذا صدق المتباكين على حال الشعب، فبأيديهم فقط أن يغيروا الواقع ويضعوا حداً للتدهور المتسارع في الأوضاع الإنسانية، وليوفرا دموعهم لأنها لم تعد تأثر في المحرومين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد