273-TRIAL- في ساعة متأخرة من ليلة السبت كان أحد مذيعي القناة الثانية في الإذاعة الإسرائيلية يتحدث بكلمات إنشائية لم أسمعها سابقا في وسائل الإعلام الإسرائيلية كان يقول: "أمتنا متماسكة .. إن الصواريخ لن تهزمنا ولن تجعل الأمة اليهودية تغادر وطنها .. إننا باقون"، ونادرا ما يستعمل مصطلح الأمة في وسائل الإعلام بالإشارة إلى وصف اليهود أو الإسرائيليين ولكن هذه المرة الأمر مختلف فإسرائيل تبدو كأنها فقدت ثقتها بنفسها ولم أشهدها تهتز سابقا كما الآن.
"إذا لم نستطع استعمال جيشنا الآن، متى سنستعمله" ؟ هكذا كان يسأل رئيس بلدية إسدروت السابق القريبة من قطاع غزة وهو يرى أقدام جيشه تتكسر على مداخل غزة ويحصي أرقام القتلى والجرحى من القوات البرية التي حاولت عبثا التقدم، ويحصي أيضا عدد القوات التي تجندت للهجوم على القطاع الصغير والذي تبلغ مسافة ضلعيه المشتركين مع إسرائيل خمسين كيلو مترا وبلغ تعدادها 86 ألف جندي أي أكثر من ألف وخمسمائة جندي لكل ألف متر، ومع ذلك لم يتوقف النيل من هذه القوات فلا يمر يوم إلا وتعلن وسائل الإعلام الإسرائيلية عن جنازات القتلى وأسماء المقابر.
لم ينتصر جيش إسرائيل المدجج ..لم يعد حاملا أكاليل الغار ولن تلقى عليه عجائز إسرائيل الملح والياسمين بل ستبكي تلك العجائز طويلا على أحفادهن الذين يعودون في توابيت من أرض المعركة، وأن هذه المعركة لن ترمز أيا من جنرالات إسرائيل الذين اعتدنا على تسميتهم باسم معارك سابقة كأبطال حكموا إسرائيل انتهى ذلك الزمن فلا أوسمة في هذه الحرب ولا أبطال للجيش.
يبدو أن إسرائيل تصر على أن تتوقف عند زمن كانت تختطف فيه النصر في الساعات والأيام الأولى وتتلو بيان القوة في أرض الآخر حيث طوتها الدبابات، قصفت غزة بكل الأسلحة هدمت البيوت على رؤوس ساكنيها ودمرتها حيث تبدو المناطق الشرقية فيها كآثار قديمة تشبه ما تبقى من الحرب العالمية الثانية ولكن غزة بقيت صامدة وصادمة للعقل اليهودي المغرور، وكما قال أرنست همنغواي: "تستطيع أن تحطم الإنسان ولكنك لا تستطيع أن تهزمه" هكذا كان... إسرائيل حطمت غزة ولكنها لم تستطع هزيمتها.
إسرائيل تريد من غزة أن تخرج منها وقد انسحبت حتى تتخلص من منطقة أصابتها بصداع مزمن وفي القلب، تمنى رابين أن يصحو من نومه فيجد أن البحر ابتلعها ثم سلمها للسلطة حتى تنشغل بها، وشارون صاحب نظرية التوسع هو من قام بسحب جيشه بعد أن اعتبر أن نتساريم مثل تل أبيب ولدهشة المشهد هذه المرة فان المقاومة هي من اعتبر أن نتساريم مثل تل أبيب، أرادوا أن يفصلوا غزة عن المشروع الوطني أن تخرج غزة نهائيا من دائرة الصراع فإذا بغزة تعود في قلب عاصمتهم وتأبى كعادتها إلا أن تكون رافعة المشروع ودفيئته الحية ومنتجة بطولاته وسيدة معاركه.
التاريخ يسير للأمام في حركة وحيدة وباتجاه واحد، أعطت ما يكفي من الدروس لأن تفهم دولة الجنون أن حركة التاريخ معاكسة لها، كان يمكن أن تفهم حين كسرت قدم أول جندي حاول الدخول لقرية عيتا الشعب ومارون الراس في الجنوب اللبناني قبل ثماني سنوات، كان يجب أن تفهم أن أسطورة الجيش الذي لا يقهر ديست أمام مجموعة صغيرة من المقاتلين، كان يجب أن تفهم أن قوة المقهور أكبر كثيرا من قوة المحتل وها هو الدرس يتكرر على بوابات غزة ورمالها التي تعيد دفن الأسطورة من جديد هل تفهم ؟
هذا الاهتزاز والعصبية والصخب الذي نسمعه من المعلقين والمحللين في إسرائيل هو انعكاس لفشل مركب لدولة إسرائيل ولجيشها الذي نزلت به المقاومة من غرور القوة إلى دهشة الميدان من قتل وأسر لجنودها وهم يحاولون جاهدين تنفيذ نظرية كي الوعي الفلسطيني لتكون النتيجة معاكسة في حدث يجب أن يكوي الوعي الإسرائيلي المتخم بنظريات سابقة عن القوة والمجد والنياشين، وظني أن نبرة الصوت فيما يصدر عن المتحدثين والمعلقين والمراسلين والمسؤولين تشي بارتداد المسألة وكي الوعي في إسرائيل.
فقد فشلت إسرائيل في مسألتين ظهرتا بشكل واضح في حروبها الأخيرة يجب أن يستوقفا العقل الذي تحدث عنه موشي يعالون قبل بداية المعركة، فقد فشلت إسرائيل في الدفاع وفشلت في الهجوم، الدفاع عن المدن والبلدات التي بدت مكشوفة أمام ضربات المقاومة الفلسطينية بكامل أذرعها وهي تقود معركتها بثقة كاملة وإصرار على كسر أنف الإسرائيلي وقد نجحت، وفشلت في الهجوم عندما قررت بعد أن ترددت طويلا في الاجتياح البري وحين قررت اكتشفت أن المسألة ليست نزهة برية بل حفلات من الجنازات والمشيعين والبكاء والعويل، صحيح أن إسرائيل ضربت غزة، أرادت أن تسحقها أن تمحوها عن الوجود، أبادت أحياء كاملة، صحيح أن كثيرا من الثكالى واليتامى والدم والدموع في غزة ولكن إسرائيل هذه المرة تعيش الحالة، لم تعد غزة تتلقى الضربات وحدها فهي تضرب وتضرب في العقل والقلب والخاصرة، تضرب في كل المدن ولكن الضربة الأكبر لقوة الردع التي كانت وسيلة البقاء الأبرز منذ نشأة الدولة، قوة الردع التي تعني أن أعداء إسرائيل كانوا يخافون من التحرش فيها بمجرد التفكير في قوتها، أي نوعا من كي الوعي، لم تعد قوى صغيرة بالحسابات العسكرية تخاف من إسرائيل.
قال صديقي من خارج غزة أن وعيا عربيا يعاد تشكيله بعد هذه المعركة، فقد انكشفت إسرائيل، واكتشف العرب أن إسرائيل أضعف كثيرا من الصورة المرسومة، وأن جيشها العائد بالتوابيت أضعف مما كان يعتقد.
ماذا يعني ذلك على المدى البعيد ؟ سؤال لن يضيء الأضواء الحمر في تل أبيب الآن لكن ربما في معركة قادمة على حدود الشمال، فالسؤال المطروح الآن بقوة إذا كانت غزة الفقيرة والبسيطة حفرت كل هذه الأنفاق، أين وصلت أنفاق حزب الله التي بدأها منذ ثماني سنوات ؟ يرد أحد المحللين مواسيا نفسه: التربة في الشمال مختلفة عنها على حدود غزة ويتلقى إجابة بأن القوة هناك والعتاد الإيراني مختلف .. على إسرائيل أن تدرك أن الزمن تغير وأن ليس أمامها سوى الحل على الطاولة فقد غادرنا الزمن الذي كان فيه الجيش ينتصر .. أتذكرون المقولة التي راجت ذات مرة في إسرائيل "دعوا الجيش ينتصر" ؟ 168

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد