284-TRIAL- تنحني اللغة أمام سطوة الواقع، فيصير صعودُ رجال المقاومة الفلسطينية من نفقٍ في باطن الأرض، إلى سطحها، "إنزالاً". نعم، تلك هي المفردة التي تستخدمها كتائب عز الدين القسام (الجناح المسلّح لحركة حماس ) في التعبير عن حدثٍ يُعاكس مفهومها العسكري المعروف، أو الشائع على الأقل.
وإن أنت راجعت كل البيانات والأخبار ذات العلاقة، فستجدها تتحدث عن إنزال المقاومين خلف خطوط العدو، في قطاع غزة ، بينما هم يصعدون، في الواقع، من فتحات أرضيةٍ ضيقة، ولا ينزلون، طبعاً، بمظلات من طائرات تجاور السحاب، كما قد يظن مَن لا يعرف، قبل أن يرقب بقلب مرتجف، مقاطع فيديو توثيقية، يقتحم فيها هؤلاء قواعد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويصطادون جنده الذين يتحوّلون، بين دقيقة وأخرى، من ذئابٍ شرسة، تفتك بالأطفال والنساء والشيوخ، إلى فئرانٍ مذعورة، انسدّت أمامها أبواب النجاة.
المفردة نفسها كانت استخدمتها حماس، من قبل، في وصف عملية نفّذها مقاتلوها في قاعدة زيكيم العسكرية الإسرائيلية، بعدما تمكنوا من الوصول إليها عبر أعماق البحر. هناك، وثّقت الكاميرا، أيضاً، لحظة الصعود من المياه إلى اليابسة، باعتبارها إنزالاً، وفق التعبير الذي صار يتكرر، لاحقاً، مع كل هجوم نوعي، بري أو بحري، على مواقع ومعسكرات الغزاة الإسرائيليين.
أهو خطأ لغوي، تفرضه صعوبةُ نحتِ مصطلحٍ جديد يُعبّر بدقة عن فعل عسكري غير معهود؟ ربما، وربما لا. ما من أحد في وسعه أن يقدم جواباً دقيقاً. وغالب الظن أن صُنّاع المواجهات المذهلة، مع الجيش الإسرائيلي، غير معنيين، بـ"ترف لغوي"، يتناول جانباً جزئياً من الحرب الإعلامية، ولم يخطر لهم على بال، ولم ينتبهوا إليه البتّة، في زحمة انهماكهم بالتصدي، ميدانياً، للمذبحة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، ويرقبها العالم على الهواء مباشرة، بصمتٍ وتواطؤ.
لكن ذلك ليس كل شيء، وثمّة في استخدام المصطلح على نحو يخالف معناه الحرفي المباشر، ما هو أبعد من اللغة، وأعمق، بل ثمة ما يستدعي من المختصين في علم النفس وعلم الاجتماع، قراءة للسلوك الفلسطيني المقاوم، تتجاوز الصورة التلفزيونية المسطّحة، كي تلقي الضوء على متغيّراتٍ كثيرةٍ شهدتها الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، ومنها ظهور كلمة "الإنزال" للتعبير، بعفويةٍ، ربما، عن الصعود من عمق البحر، أو من باطن الأرض، إلى سطحها.
وإلى أن تتطوّع جهةٌ ما للقيام بمهمة بحثية كهذه، سأسمح لنفسي بالاسترسال، قليلاً، في "الترف اللغوي" الذي قد يساعد على رؤية البعد النفسي الاجتماعي، لأقترح القول، ابتداءً، وعلى سبيل المثال، إن المقاتلين الفلسطينيين يطيرون ويُحلّقون (بدلاً من يتسلّلون) عبر الأنفاق، لينفّذوا عمليات الإنزال خلف خطوط العدو، وإن الجنود الإسرائيليين، في المقابل، يتورطون (بدلاً من يتوغلون) داخل مناطق شرق غزة.
تفسير هذه العبارات، إن احتاجت إلى تفسير، يقتضي رؤية المواقف والأحاسيس الكامنة وراء الفعل، وكذا السلوك الجانبي المتزامن معه. فالمقاومون الفلسطينيون يتسابقون، كما تقول أخبارهم، على أولوية المشاركة في عمليات الإنزال، ويطيرُ فرحاً كل مَن يقع اختيار قيادته عليه، لتنفيذ المهمة الخطرة، بينما الجنود الإسرائيليون يطلقون النار على أرجلهم، كما تقول أخبارهم أيضاً، كي يغادروا ميدان المعركة إلى المستشفى، وتتاح لهم فرصة النجاة من ورطة الموت المحقّق.
لا غرابة، إذن، في أن ينظر المقاتل الفلسطيني، إلى نفسه، على أنه يطير، عبر النفق، ويحلّق دقائق، قبل أن يفرد جناحيه، ليحطّ، ويقاتل، فوق أرض قاعدة عسكرية إسرائيلية، محروسة بجنود مذعورين. واستطراداً، يبدو النفق، في اعتقاد هؤلاء المقاتلين ذوي العقيدة الدينية والوطنية الراسخة، كأنه يبدأ من أرض غزة، لينتهي في السماء، بمعنييها الفيزيائي والماورائي، سواء بسواء.
المشكلة، هنا، أن الآخرين، في إسرائيل، ومصر، ودول أخرى تتحالف معهما، ما زالوا يعتقدون أن تدمير النفق، أو إغلاقه، يمكن أن يسدّ الطريق إلى السماء، ويمنع الفلسطينيين من التحليق.

76

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد