لا يمكن لاثنين أن يتفقا حول السبب الحقيقي لفشل كل جولات الحوار الوطني وعملية السلام، لكن المؤكد أن هناك جملة كبيرة من الأسباب التي يمكن للجميع أن يأتي عليها، وإن كان كل يعني بها شيئاً مختلفاً عن الآخر.
ليس إن عملية المصالحة عملية معقدة، أو إن الشجرة التي لم تثمر نزلت من الفضاء، أو إن النتائج المرجوة منها مستحيلة، ولكن لأن تسع سنوات مرت الآن دون أن نتمكن من إزالة البقعة السوداء المسماة انقسام عن جبيننا.
تسع سنوات تشكل سُبع عمر النكبة وتشكل تقريباً نصف عمر السلطة الوطنية إلا قليلاً، وتشكل إلى جانب كل ذلك السنوات الأسوأ في تاريخ كفاح الشعب الفلسطيني التحرري.
أما لماذا لا يتفق اثنان على أسباب فشل عملية المصالحة فتلك حكاية أخرى، أيضاً سببها الانقسام. فكل شيء في الحياة الفلسطينية مسيس لدرجة عالية، وكل حديث فلسطيني فلسطيني يشكل قشة أخرى في بيدر الانقسام الهش. ولما كان الحديث عن الانقسام هو جزء من الانقسام ذاته، لأنه ينطلق من فرضياته ويتأسس على وعيه، وبالتالي يبرره بطريقة أو بأخرى، فإن هذا الحديث ليس إلا إعادة إنتاج لمقولات الانقسام المريرة. المقولات التي تجعل من البحث عن مخرج مجرد حفرة أخرى في الطريق.
وربما يمكن تخيل أن جولات الحوار الوطني لا تختلف كثيراً عن حديث الناس العاديين، ويمكن للمرء أن يصاب بالغثيان إذا شاهد بعض تعليقات الساسة على بعض الفضائيات وهم يكيلون الشتائم والسباب للطرف الآخر. ولأن من يقوم بذلك لا يضع احتمالاً ولو ضئيلاً لإمكانية أن يكون من يسبه صديقه يوماً ما في حال تحققت المصالحة، فإنه يمعن في السب والردح. ولو كان يعطي بينه وبين نفسه فرصة صغيرة بحجم ثقب الإبرة لنجاح المصالحة، لتورع قليلاً في هجومه على الطرف الآخر. والأدهى من ذلك ربما هو اختلاف الخطاب الفصائلي صعوداً وهبوطاً وفق الحالة المزاجية للحوار الوطني. لكن الغائب في كل ذلك هو حالة التسامح التي تجعل من التطرف، أياً كانت وجهته، ظاهرة مرفوضة حتى في التعاطي بين التنظيمات السياسية. وفي ظل غياب هذا الفهم، بل والإصرار على دفن أي مشاعر أخوية، فإن الانقسام يجد تربة أكثر خصوبة يوماً بعد آخر رغم أن الوضع لم يعد يطاق، ورغم أن المصالح الوطنية معطلة لصالح الانقسام ورغم تعثر الاقتصاد وتزايد البطالة وتدهور البنية التحتية وتراجع الخدمات وتعثر إعادة الإعمار ناهيك عن الكهرباء والحصار وكل ذلك. في ظل هذا الاقتتال تصبح البلاغة سيدة الموقف، ويصبح البحث عن التراكيب اللغوية الجذابة غواية المتحدث، وتصبح صياغة الحقائق المنافية للواقع مجرد حجة أخرى لكشف جاذبية الواقع غير الموجودة، لنفي ما قد يقوله الآخرون. مثل أن نقول إن الاقتصاد في غزة شهد طفرة نوعية، أو إن الحال لم تكن أفضل مما هي عليها منذ عشرات السنين.
وبالعودة إلى هذا الإدمان على الاختلاف فإنه يمكن بسهولة أن يتفق الجميع على أن مرد الفشل الحقيقي لعملية الحوار الوطني تكمن في التدخل الخارجي. ولكن عبارة بسيطة مثل تلك تعني أشياء كثيرة لكل طرف. فهي لطرف تعني التدخل التركي القطري وقبل ذلك الإيراني قبل الخلاف بين طهران و حماس ، وهو تدخل كان يمكن ملاحظته بيافطات الشكر الكثيرة التي ملأت شوارع غزة، فيما يعني التدخل الخارجي ضغوطات إسرائيلية وأميركية على الطرف الآخر.
وفي خضم الدفاع عن وجهات النظر تصبح نقطة التلاقي جوهر اختلاف جديد يعمق الخلاف القديم، ويجعل فرص الاتفاق أبعد. فبدل من أن يتم مثلاً تأكيد أن التدخل الخارجي مرفوض بكل أشكاله، وبالتالي البحث المشترك عن سبل تجنب أي ضغوط يتم تبادل الاتهامات بالرضوخ لهذا الطرف أو ذاك.
المؤكد أن الانقسام فتح شهية الكثير من الأطراف الخارجية لتمارس أدواراً مفقودة لها في ساحات أخرى. ومن المؤكد أن إسرائيل تعرف أن مصلحتها الحقيقية تكمن في الإبقاء عليه، وبالتالي فإنها تحافظ على وتيرة من العلاقة في غزة تبقي على الانقسام. ومن الجاهل الذي يتوقع أن تساهم إسرائيل في إنهائه؟!
القصة تظل عندنا نحن كفلسطينيين إذا كنا فعلاً نريد إنهاءه أم لا. من المؤكد أن استطلاعاً للرأي بين المواطنين سيكون صادماً إذ إن المواطن الفلسطيني لم يعد يؤمن بإمكانية إنهاء الانقسام، وعلى الساسة أن يأتوا بالمعجزات ليقنعوه بغير ذلك.
أما بخصوص استطلاع الرأي فإن من المفيد إجراء استطلاع ليس حول قناعات المواطن بالتنظيمات وأيهم سينتخب في الانتخابات القادمة، كما درجت العادة، وكما تفضل المؤسسات القائمة على المسوح والاستطلاعات، بل حول السبب الحقيقي لفشل عملية المصالحة.
السؤال البسيط الذي يمكن له أن يفكك عملياً مفاعيل الانقسام ويهدم مداميكه. وبالطبع سنلاحظ كيف يتفق المواطنون على الأسباب العامة التي تقف وراء فشل كل عملية الحوار الوطني، إذ إن إجابات المواطنين ستتقاطع في الكثير من الأسباب وسترد فيها عبارات كثيرة متشابهة تعلل بقوة سبب بقاء عرش الانقسام ثابتاً راسخاً لا يهتز.
ومرة أخرى سيعني كل مواطن بنفس السبب وجهة نظر مختلفة عن تلك التي يعنيها الآخرون. لكن حتى لو كان الأمر كذلك فإن ثمة تقاطعات توجب وتلزم البحث عن سبب الاتفاق عليها؛ لأن الحكمة التي يجب ألا تغيب عن بالنا هي أن اتفاق الناس حتى لو لم يكن يعني توافقاً في الجوهر، يدل على أن الأسباب الكبرى التي تعمق الانقسام بحاجة لإزالة. وما لم يتم التعاطي بجدية مع ملف المصالحة والعمل على القفز عن المصالح والذات والمطامع فإن بقاء الحال، صحيح أنه من المحال كما درج المثل، لكنه يهدد بالمزيد من الانهيارات في المصالحة الوطنية وبالمزيد من التآكل في حلمنا الوطني الذي ينتظر النور.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية