ما تزال المملكة العربية السعودية تمتلك عناصر إبهار العقول واستهواء القلوب من خلال قدرتها على تقديم المنتج الخيري المؤسسي الذي يحتفظ بإمكانياته المبدعة في التدخل الإغاثي العاجل أوقات الأزمات، مستفيداً من الأدوات والمنهجيات الأكثر تطوراً في حقل العمل الخيري الإنساني.
 
واستطاعت المملكة، في إطار ذلك، من الاستفادة من معطيات عدة عبر تاريخها في صناعة العمل الخيري والإنساني، سواء أكانت هذه المعطيات تتعلق بالجانب الكمي أم المعلوماتي، وحتى الحسي، حيث أتاح لها ذلك رسم آليات وخطط وبرامج العمل الخيري الإسلامي الذي بات اليوم مدرسة تنهل من علومها الأجيال الصاعدة، والدارسين، إضافة للمختصين والمهتمين في هذا القطاع.
 
ويطول الحديث عن ريادة المملكة العربية السعودية في مجال رسم معاني ومفردات العمل الخيري الإسلامي، ووضع أبجدياته التي تعلمنا منها الكثير الكثير، حيث كان من أهم ما تعلمناه وبات نبراساً نسير على هديه هو كيفية وضع التصورات التي تمكننا من بناء استراتيجياتنا المستقبلية في العمل الخيري المؤسسي المنظم والمدروس، وبعيداً عن العشوائية والارتجالية.
 
ويعد إطلاق "مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية"، العام الماضي، باعتباره أحد النتاجات الخيرية للمملكة، بمثابة التجسيد الحقيقي للمكانة الدولية للمملكة، ورسالة لا تحتمل التشكيك في كون المملكة بلداً محباً للخير والسلام، كما يؤكد على ما تتصف به من دولة لا تخذل من يستجير بها وتتحمل في ذلك مسؤولياتها الإنسانية والأخلاقية.
 
ويعتبر تأسيس المركز بمبادرة مباركة من خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، مؤشراً واضحاً على استجابة المملكة للمتغيرات التي تفرضها المرحلة، كما أنه يهدف لإعادة هيكلة القطاع الخيري السعودي، وتأكيد على اعتبارات أن هذا القطاع هو قطاع حي نابض بالحياة وبالتجديد والتغيير بحسب مقتضيات حركة التطور العامة التي يشهدها أسوة بغيره من القطاعات الأخرى.
 
ومع توجيه بوصلة المركز في بداياته باتجاه إغاثة أشقائنا في اليمن في ظل الأوضاع التي يمرون بها، باعتبارها ضرورة إنسانية ملحة لا يختلف عليها اثنان، فإن متطلبات المرحلة ذاتها تستدعي من المركز وضع الترتيبات المستقبلية لتوسيع رقعة المستفيدين من أعماله ومشاريعه الخيرية والإغاثية جغرافياً وبشرياً، لتشمل المنكوبين والمكلومين في أنحاء أخرى من أرضنا العربية والإسلامية.
 
ولعلها تكون بادرة طيبة أن يجري الإعلان، مع قدوم شهر رمضان الفضيل، عن إطلاق المركز لبرنامج إغاثي يستهدف المحاصرين من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ، الذين يذوقون في كل نهار يطلع عليهم منذ فرض الحصار الإسرائيلي الجائر شتى أنواع المعاناة، حيث لم يرحم الحصار مريضاً ولا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة، ولا حتى شباب غزة الذين بدأوا يفقدون الأمل في حياة أفضل أسوة بأترابهم في مناطق أخرى من العالم.
 
ولا نضع بذلك الأولويات لمناطق عمل المركز الذي بدأ فعلياً بالوصول إلى المحتاجين في بقاع جديدة من المنطقة كالصومال وجيبوتي وطاجيكستان، واستعداده لتقديم الدعم لأشقائنا من أبناء الشعب السوري، ولكننا نقول ذلك من باب التذكير تبعاً لقوله سبحانه وتعالى في سورة (الذاريات) "فذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"، كما أن القيادة السعودية الرشيدة، وأهل الخير من أبناء الشعب السعودي الكريم، والعاملين على مؤسسات العمل الأهلي السعودي لا يحتاجون إلى التعريف بحجم الحاجات الإنسانية الكبيرة لأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وفي مخيمات الشتات.
 
وبالتأكيد، لن نوفي المملكة حقها إذا ما حاولنا سرد ما قدمته لأبناء الشعب الفلسطيني من مساعدات إنسانية وإغاثية وتنموية عبر مؤسساتها التي استنفرت جهودها منذ بدايات الاحتلال الاسرائيلي للأرض الفلسطينية، بل وعملت خلال تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ومع اشتداد بطش الاحتلال بأبناء شعبنا الفلسطيني، واستهدافه قتلاً واعتقالاً وتشريداً وتنكيلاً إلى إطلاق مؤسسات وحملات يقوم برنامج عملها على مداواة الجرح الفلسطيني والإسهام في التخفيف من المعاناة الإنسانية بشكل مباشر.
 
نذكر من هذه الحملات التي استمر عملها لأعوام بشكل منهجي ومؤسسي، على سبيل المثال لا الحصر، حملة "خادم الحرمين الشريفين لإغاثة الشعب الفلسطيني " عام 2009، في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله)، التي وصلت التبرعات في اليوم الأول لانطلاقتها إلى أكثر من 39 مليون ريال، تم جمعها عبر شاشة التلفاز السعودي و منذ ذلك التاريخ و الحملة قائمة بجهد متميز و ثابت في دعم احتياجات الشعب الفلسطيني بكلياته في الضفة و القطاع بمبالغ تجاوزت مئات الملايين  من الدولارات في أعمال إغاثية و صحية و تعليمية و تنموية عززت من حالة الإستقرار في المجتمع الفلسطيني في مواجهة حالة التدمير التي ينتهجها الأحتلال الأسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة 
و الموقف السعودي من قضية فلسطين ثابت و واضح و خاصة الموقف من القدس و أقصاها و الذي يتطلب موقف موازي و مؤيد للموقف السعودي الراسخ و يضاف إلى ذلك حرص المملكة على وحدة الشعب الفلسطيني و وحدة قراره حيث بذلت و ما زالت تبذل المملكة جهودا في المصالحة الفلسطينية لتعزيز الوحدة الوطنية ي مواجهة الأحتلال الأسرائيلي  . وقبل هذا وذلك كانت المملكة ولا تزال من أوائل الدول التي تقوم بتسديد التزاماتها المالية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من كل عام، فضلاً عن المبالغ والمساعدات التي تقدمها خارج نطاق الوكالة.
 
وقد سعت القيادة السعودية دوماً إلى وصول مساعداتها لكافة قطاعات المجتمع الفلسطيني، وكافة الميادين لدعم صموده على أرضه، حيث خصصت قسطاً كبيراً من المساعدات لدعم صمود المقدسيين، والحفاظ على المقدسات، بالإضافة لتقديم مساعدات استهدفت جرحى الاعتداءات الإسرائيلية، والأيتام، والفقراء، والمشردين ممن دمرت آلة الاحتلال الحربية منازلهم.
 
ومثلما كانت أذرع الخير السعودية تمتد لتقدم العون للمنكوبين من أبناء الشعب الفلسطيني، كانت تمارس دوراً إنسانياً مماثلاً عبر مؤسساتها الخيرية في إغاثة الأشقاء في مختلف الدول العربية والإسلامية، لا سيما مع ما شهدته شعوب هذه الدول من كوارث إنسانية، وأخرى ما تشهده من محطات تاريخية كان لها انعكاساتها الإنسانية الأليمة، فقد أطلقت المملكة حملاتها تحت اسم "خادم الحرمين الشريفين" لدعم الأشقاء السوريين، واليمنيين، وقبلهم الباكستانيين الذين ابتلوا بالفيضانات خلال أعوام مضت.
 
ويُحسب لمؤسسات العمل الخيري الأهلي السعودي قدرتها ومرونتها في التناغم مع التوجهات الخيرية الرسمية، حيث كانت تعبّر دوماً عن سياسات المملكة في المجال الخيري، الذي أدى عبر مسيرة الخير الطويلة إلى رسم معالم الدور الإنساني السعودي، وبلورة هويته العالمية، ليشهد فيما بعد لمهنية هذه المؤسسات هيئات دولية منبثقة عن الأمم المتحدة عقدت معها شراكات، وعلاقات تشبيك واحتكاك ميداني مباشر عملت على إثراء تجربة المؤسسات السعودية.
 
كما كان للمؤسسات الخيرية السعودية إبداعاتها الخاصة في "تفريع" –إن جاز التعبير- المؤسسات الخيرية والإنسانية الأصغر (من حيث تخصصية عملها وليس إنجازاتها)، وتقديمها كنماذج تسير على خطاها وتهتدي بها كتجارب أثبتت نجاحها، وقد تكون في أحيان كثيرة مختصة في جوانب خيرية بعينها، لتقدم بدورها (أي المؤسسات الرئيسية والمتفرعة عنها) انموذجاً و"حزمة" من المشروع الخيري تتكامل فيما بينها لتغطي كافة الفئات والقطاعات، مستفيدة في الوقت ذاته من التطورات التكنولوجية والعلمية في عالم سريع التطور.
 
وتستدعي هذه العلاقة بين المؤسسات الأهلية البناء على منجزاتها، وما وصلت إليه من نضج وخبرة في هذا المجال، حيث أن الحفاظ –على سبيل المثال- على مؤسسات إنسانية وخيرية عريقة انبثقت عن "رابطة العالم الإسلامي"، وأدت أدواراً وضعت المملكة العربية السعودية في مراتب متقدمة على المستويين العربي والإسلامي، جسدت من خلالها رؤية المملكة ورسالتها الهادفة لتكريس الخير والسلام والمحبة والتكافل الإنساني، المستمدة من تشريعات وتعاليم الإسلام السمحة.
 
كما أن تعزيز دور مؤسسة لها تاريخها الحافل بالمنجزات النوعية كالـ "الندوة العالمية للشباب الإسلامي" لا بد أن يجري في قنوات تدعيم وتقوية أداء المملكة في اضطلاعها بالمهمة العظيمة المتمثلة في جمع كلمة العرب والمسلمين، ولملمة ما تشظى منها، ومداواة جراحها الغائرة، في ظل الأوضاع الناتجة عن حالة الفوضى والاضطرابات التي تشهدها المنطقة.
 
إن تأطير وتعزيز عمل مؤسسات "رابطة العالم الإسلامي"، و"الندوة العالمية للشباب الإسلامي"، وغيرها من المؤسسات، التي عملت على وضع نجم المملكة العربية السعودية في مكانه الصحيح، ليتلألأ في سماء العمل الخيري والإنساني عالمياً، إضافة للجهود التي يبذلها "مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية" سيكون له بالغ الأثر الإيجابي في حماية الدور السعودي في المنطقة والعالم ممن يحاربون هذا الدور، بل ويبحثون ليل نهار عن ثغرة يعبرون منها إلى جسد الأمة بغية العبث في ثقافتها التي ترتكز على أساس حضارتها العربية والإسلامية العريقة، وبالتالي إنهاكها والإجهاز عليها.
 
وبات لهذه المؤسسات التي فنّدت عبر تاريخها الفكر الديني المتطرف، ووقفت سداً أمام تغوله في مختلف قارات العالم وعلى رأسها آسيا وأفريقيا، من خلال بث روح الوعي لدى أجيال الشباب بوسطية دين نبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم)، أدواراً أكثر جسامة بعد خروج "مارد" التطرف الذي غذته أطراف سياسية إقليمية ودولية لا تريد الخير لأوطاننا وشعوبنا، وتهدف لإعادتها إلى العصر الحجري، والحكم عليها بتأبيد التخلف والانغلاق الفكري، وإقصاء الآخر.
 
مطلوبٌ اليوم من هذه المؤسسات في ظل حالة التجديد التي يشهدها القطاع الخيري والإنساني السعودي بقيادة "مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية" أن يتسلم الدفة جنباً إلى جنب مع هذه المؤسسات ويسير باتجاه تقوية الدور الإنساني السعودي الإسلامي المعتدل، في مسيرة دعمه للشعوب التي تنتظر منه المزيد من الدعم كما في فلسطين وسوريا واليمن..وغيرها، من خلال الاستمرار في أداء رسالته الإنسانية، فضلاً عن رفد هذا الدور الإنساني بكل أسباب المنعة بغرض التصدي لمحاولات القوى الداعمة للتطرف إحلال فكرها المنحرف، والسير بحضارتنا وثقافتنا في طريق الهاوية
أن توسيع انتشار العمل الخيري والإنساني السعودي و تقوية مؤسساته الحالية و زيادة عددها و دعمها و تمكينها من أداء رسالتها وأهدافها الإنسانية كسفراء خير و عطاء سيعزز من المكانة التي تستحقها و تسعى لها قيادة المملكة في خدمة الإنسانية المعذبة .
هذا سيرة عطرة للملكة يجب أن تتناقلها الأجيال القادمة مهما عظمت الضغوط لثني المملكة و شعبها و مؤسساتها عن مسيرة الخير و العطاء.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد