وقعت يداي على رواية للكاتبة الإيرلندية ايثيل مانين صدرت لها العام 1963، وتمت ترجمتها للعربية مبكراً، تجسد واقع النكبة الفلسطينية بأسلوب روائي وسردي مشوقين. 
العنوان بحد ذاته يبدو جذاباً إذ إنه يشي بأن الرواية تتعلق بفلسطين أو ميدنتها الصحراوية التاريخية. بالطبع حتى تقابل عنواناً مثل هذا باللغة الإنجليزية فإنك ستكون شبه متأكد من أنه كتاب متعاطف مع إسرائيل أو هو جزء من دعايتها. 
فالمكتبة الغربية حين تأتي على فلسطين يكون هدفها عادة خدمة إسرائيل، ويقع الكثير من الكتاب الغربيين تحت تأثير ماكينة الإعلام الصهيوني الذي برع منذ بدايات المشروع الاستعماري الإحلالي في فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر في تشويه الحقائق. 
وكما يقول مثلنا الشعبي قبل أن تقرأ عنواناً كهذا باللغة الإنجليزية يجب أن تضع يدك على قلبك من الصدمات التي ستواجهها، والمعلومات المشوهة التي ستقابلها، والكذب والتزييف الذي قد يصيبك بالغثيان. 
وقد تجد نفسك غير قادر على إكمال الكتاب، وربما تشتبك نفسياً معه، فيؤثر عليك وتشعر كم يتخاذل العالم ضدك. 
وطبيعة الحال أن الثقافة الأوروبية كانت جزءاً أصيلاً في تكوين المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين. 
بمعنى أن الأمر لم يكون مقصوراً على مساهمة الدول الأوروبية الكبرى والولايات المتحدة في صناعة إسرائيل، بل أيضاً ساهمت الثقافة الأوروبية من روايات ومسرح وشعر وسينما في تعزيز الأفكار الترويجية التي تطمح الدعاية الصهيونية في جعلها حقيقة في تساوق مذهل مع الرؤية السياسية. 
بل إن النتاج الثقافي الغربي سبق الفعل السياسي أميالاً وهو يروج للأكاذيب الكبرى التي تقترح أن فلسطين أرض خالية من السكان وأن اليهود سيعودون إلى أرض الآباء والأجداد الفارغة والتي تنتظرهم. 
وحتى صور الفلاحين الفلسطينيين وهم يحرثون أرض آبائهم وأجدادهم التي عاشوا فيها قبل التوراة بآلاف السنين، لم تكن إلا صوراً عن العالم التوراتي الذي يصور الفلسطيني بالبدائي المتخلف. 
وأيضاً في أجمل لحظات المديح فإن تلك الصور ساهمت في جذب اهتمام المستعمرين إلى براءة الأرض وفطرة الحياة في الشرق المثير، الشرق الذي حمل للغرب دياناته وكينونة ثقافته ولاهوته. 
يبدو هذا الاستطراد في تشخيص مساهمة الثقافة والأدب الغربي في تعزيز الرواية الصهيونية تاريخياً وقبل نشوء إسرائيل حتى ضرورياً قبل الحديث عن رواية إيثيل مانين لجملة من الأسباب. 
ولكن لننتبه أن الأدب دائماً كان له دور في الأزمات. حتى الأدب الرفيع العابر للزمن والذي يحافظ على جاذبيته وقوته فإنه أيضاً يحمل قيماً وتوجهات وأفكاراً ويدافع عن بعض المواقف ويخدم تصورات ما، ولكن ربما بفنيات قادرة على أن تعطيه قوة من نوع خاص. وبكلمة أخرى فإن الأدوار في الأدب ليست سيئة بهذا المعني، لكن السيئ هو ماهية الدور الذي يلعبه الأدب والكتاب، والضفة الأخلاقية التي يقف عليها في أي صراع.
من هنا تكمن أهمية هذه الرواية «الطريق إلى بئر السبع». 
إنها رواية إنجليزية تسرد معاناة الفلسطينيين حين هُجروا من بلادهم ورحلة تيههم، وليس أقل من ذلك أهمية إصرارهم على العودة إلى بلادهم. 
الرواية تصور الخروج القهري والمؤلم لعائلة منصور الفلسطينية من مدينة اللد ومشيها عبر الأشواك والجبال إلى مدينة رام الله واغتصاب الجندي الإسرائيلي لفتيات العائلة ومن ثم السكن في أريحا، وبعد ذلك موت عميد العائلة قهراً في منفاه في أريحا وهو عاجز عن التأقلم عن فقد مدينة اللد. 
بعد موته تعود زوجته الإنجليزية بابنها إلى لندن لتعيش مع أهلها.
الولد سيكبر ويصير شاباً يافعاً يعود إلى فلسطين حيث يحقق حلمه بالتسلل مع أصدقائه إلى بئر السبع حيث موطن صديقه. 
في نهاية الرواية يستشهد البطل على خط التماس وعيناه تنظران إلى فلسطين التي أجبر على الخروج منها.
تبرع الكاتبة في تصوير معاناة اللاجئين الفلسطينيين وتبرع في تصوير جمال حياتهم وثرائها ومدنيتها قبل النكبة من خلال قصة العائلة اللداوية الثرية التي تملك بيتاً يشبه القصر وسيارات وحدائق وبيارات وبيوتا خارج المدينة في الريف للترفيه. 
وربما تبرع أيضاً في تصوير مدى حب الفلسطينيين لبلادهم وإصرارهم على الدفاع عنها. 
بل إن الروائية الإيرلندية تصوغ مرافعات بلاغية وأخلاقية حول الحق الفلسطيني للأسف بات الكثير من الكتاب يشعرون بالخجل من تبنيها تمشياً مع ظاهرة السوق.  
هل يقودنا هذا للحديث عن الأدب الوطني وضرورة الحفاظ عليه دون التنازل عن الشروط الفنية الرفيعة. هذا سؤال آخر أظن المقام لا يتسع له هنا على أهميته.
لا يمكن للقارئ أن يمر دون توقف وتمعن في مقدمة الكاتبة حول تاريخ فلسطين وكيف ضاعت بقرار أممي وكيف تم تهجير شعب فلسطين واستلاب أرضه. 
وهي مقدمة تصوغها الكاتبة للقارئ الإنجليزي الذي تعرف كم يجهل حقيقة ما جرى.
لنتصور أن الرواية ظهرت باللغة الإنجليزية العام 1963، أي أنها كتبت قبل ذلك بأعوام. 
وربما بقليل من العمليات الحسابية ستكون هي ربما أول الروايات التي جسدت النكبة بقالب سردي جميل وجذاب. 
بالطبع فإن الروائية الإيرلندية إيثيل مانين تعرف عن قرب نكبة الشعب الفلسطيني التي من الواضح أنها عاشت قسطاً من حياتها بين جنباته سواء قبل الشتات أو بعده. 
اعتقد أن هذه الرواية تستحق أن يقرأها الفلسطينيون وأن تتوفر في مكتباتهم وتوزع على المدارس. 
وأظن أن على الجهات الرسمية أن تعمل على ذلك تعزيزاً للثقافة الوطنية. 
أما الكاتبة الإيرلندية التي تبرعت للدفاع عن الشعب الفلسطيني في زمن قل فيه من يفهم حقيقة الصراع، ألا تستحق نوعاً من التكريم بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدرو روايتها، على الأقل أن يعرف الناس هؤلاء الجنود المجهولين الذين كتبوا من أرواحهم للدفاع عن فلسطين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد