قد يبدو هذا العنوان غريباً ومتناقضاً، لكن الأمر ليس كذلك مع الأسف الشديد.
فلو افترضنا صمود الهدنة والوصول إلى حل توافقي بين روسيا والولايات المتحدة ـ والمسألة برمتها تكمن في هذا الأمر تحديداً ـ، ولو افترضنا أن كل طرف منهما أصبح ملزماً بإجبار جماعته على هذا الحل ـ وهذا هو المنطق الوحيد الذي سيسري إذا حصل التوافق فإن إيران ستعتبر أنها ملزمة بالتوقيع إذا أُطلقت يدها في لبنان بعد «عودة مستشاريها وعودة قوات حزب الله» لكي تفرض الحل الذي تراه يتناسب مع مصالحها من جهة و»يعوضها» عن المكاسب التي «تخلت» عنها لصالح الاتفاق في سورية.
بكل بساطة هذا يعني في الواقع إعادة تحويل لبنان إلى «حديقة خلفية» للنفوذ الإيراني «المقلص» في سورية، وبكل بساطة هذا يعني ليس تعطيل الحلول في هذا البلد المغلوب على أمره فحسب، وإنما فرض الحل الإيراني عليه.
ولو افترضنا أن الهدنة في سورية صمدت فعلاً وتم التوصل إلى ملامح عامة للمرحلة الانتقالية وبقي النظام على هيئة معينة قائماً في البلاد فإن الولايات المتحدة وجماعاتها ستعتبر الساحة اللبنانية الساحة الأكثر أهمية للسير بالحل نحو الأهداف التي تضعها الولايات المتحدة لنفسها ولجماعاتها، وهو الأمر الذي يعني في الواقع بأن الأمور ستؤول إلى اعتبار لبنان الورقة التي من خلال اللعب بها يمكن التأثير على مسار الأحداث اللاحقة في سورية، وفي كلا الحالتين سيدفع لبنان الثمن غالياً.
أما إذا كانت الهدنة مجرد «استراحة محارب» مؤقتة ـ وهو أمر وارد على كل حال ـ فإن لبنان هو الضحية مرة أخرى.
فاستمرار الحرب يعني استحالة الحل في لبنان واستمرار التعطيل إلى أجل غير مسمى، وتمسك إيران وحزب الله أكثر فأكثر بلبنان كورقة ضاغطة على مسار الحرب.
أما العربية السعودية وبلدان الخليج، وكذلك إلى حدٍ ما تركيا فإنهم سيقاومون بكل الوسائل «الاقتصادية» المتاحة الخطة الإيرانية وحيث لم يعد مستبعداً العمل في هذه الجهة على العاملين التاليين:
أولاً: عامل المساعدات الاقتصادية المباشرة المتمثل بتحويلات مئات الآلاف من اللبنانيين العاملين في بلدان الخليج، وهو ما سيفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان ويدفع بها إلى السقف الأعلى وحدود التدهور الشامل.
ثانياً: عامل المكانة المصرفية للبنان، حيث يمكن للولايات المتحدة والبلدان الخليجية أن تضرب هذا المفصل في مقتل، وهو الأمر الذي سيؤدي ـ إن حصل ـ إلى انهيار غير مسبوق، وإلى أزمة ستدخل البلاد في حرب أهلية طاحنة ربما تكون أكثر ضراوة من الحرب الأهلية السابقة، وقد تصل في درجة العنف الذي تنطوي عليه إلى مشارف العنف الذي شهدته سورية على مدار السنوات الخمس الماضية.
هذا هو بالضبط ـ كما أرى ـ ما تحمله هذه الهدنة للبنان، وهذا هو سبب الأسف الشديد الذي قصدته في بداية هذه المقالة.
لكن، ومع كل ذلك هل هناك من حلٍ وسط؟، أو هل هناك من إمكانية لكي تكون الفاتورة اللبنانية لصمود الهدنة أو انهيارها أقل مما تبدو عليه الأمور؟
الجواب صعب على هذا السؤال، ولكن أعلى درجات التوقع غير السوداوي يمكن أن تكون شيئاً من هذا القبيل ـ أقصد الذهاب إلى الحل الوسط.
كل شيء سيعتمد على طبيعة الاتفاق الأميركي الروسي، وكل شيء سيتوقف على مدى فهم كل طرف لعمق الصراع بين الجانبين على المستوى الكوني.
الحقيقة أن سورية هي ساحة الصراع الأولى والأهم والأكبر والأخطر لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، أو هي ساحة الاختبار الأولى لهذه المرحلة وكامل مضامينها وهي بوابة فهم المرحلة الجديدة في هذه الحرب بين القطبين.
بوتين لن يقبل أقل من تفاهم كامل على كل المنطقة وعلى أدق تفاصيل الصراع فيها، والولايات المتحدة لا ترغب باتفاق من هذا النوع وهي ليست مضطرة إلى ذلك حتى الآن.
كل ما يفعله بوتين هو تحويل الاتفاق في سورية إلى ضوابط كونية للعلاقة بروسيا، وكل ما تريده الولايات المتحدة هو أن لا تجبر على الدخول في مساحة من هذا النوع.
إذا نجح بوتين في جرّ الولايات المتحدة إلى التوافقات الدولية عبر البوابة السورية بأن لبنان يمكن أن «ينفد بنصف ريشه» أما إذا فشل بوتين في هذا الأمر واستطاعت الولايات المتحدة حصر الاتفاق إلى داخل الحدود السورية ونجحت في الفصل ما بين أزمات المنطقة والأزمة السورية فإن لبنان سيدفع الثمن لا محالة.
أما البلدان الأخرى، فعلى ما يبدو تحتاج إلى معالجات جديدة في الأسابيع القادمة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد