كثر الحديث في الأشهر الأخيرة حول بناء مطار وميناء ل غزة ضمن تفاهمات ما يصار إلى صوغها بين إسرائيل و» حماس » عبر وسطاء ربما كان أبرزهم في السابق توني بلير إما بصفته ممثلاً عن الرباعية الدولية سابقاً أو مواطناً صالحاً اكتشف حين بات بلا جدوى ضرورة أن ينعم الفلسطينيون بالقليل من الحياة. كما رشح حديث عن وساطة تركية بين الطرفين تنتهي بإقامة الميناء والمطار وتخفيف الحصار عن قطاع غزة مقابل التزامات بهدنة طويلة المدى، تعني في المحصلة عملية سلام مؤقتة. تضمن ربما عملية تبادل للأسرى والجثث. بالمحصلة فإن الحديث عن الميناء والمطار بات أكثر تردداً في النقاشات السياسية المتعلقة بمستقبل القطاع والتعامل معه.

وظهرت مؤخراً الكثير من المقترحات التي تتحدث عن بناء جزيرة في عرض البحر تضم المطار والميناء المزعم بنائهما لغايات نقل البضائع والمسافرين، وبالتالي ربط غزة بالعالم الخارجي وفي نفس الوقت الحفاظ على سيطرة إسرائيل الأمنية على أمن الجزيرة، أو ربما انتداب قوات دولية خاصة من قبل حلف الناتو (حيث تركيا عضو مؤسس وفاعل) للقيام بمهمة ضمان الاجراءات الأمنية في الجزيرة المطار/الميناء. ويمكن بمتابعة سريعة للصحافة الإسرائيلية ولمواقف الساسة الإسرائيليين أن نجد كيف باتت فكرة بناء جزيرة في عرض البحر أكثر روجاً. وحتى لو لم يتم الموافقة بشكل نهائي عليها، فإن تكرار الفكرة وتداولها يعكسان الجاذبية التي باتت تشكلها كمخرج للتخلص من أزمات قطاع غزة.

والحديث لا يدور حول حل سياسي تكون مخرجاته استجابة لحقوق سياسية يتعرف بها العدو، بل عن حل إنساني يسعى للتخفيف من ثقل الأزمات التي يواجهها قطاع غزة، وبالتالي التخفيف من النقد الدولي الذي تتعرض لها إسرائيل بسبب الكوارث الإنسانية التي تحدث في القطاع الذي تقوم بمحاصرته جواً وبراً بحراً. وثمة فروق كبيرة بين «الاتفاق السياسي» و»الاتفاق الإنساني». وهي فروق تتعلق بفهم العدو للصراع ولحقوقنا في الصراع. فحق الفلسطيني لا يمكن أن يكون إنسانياً بل هو سياسي بامتياز. فالأرض أرضه والبحر بحره والجو جوه، وبالتالي فإن إقامة ميناء ومطار ومعابر برية ليس منة وهبة بل هي حقوق تتعلق بملكية الفلسطينيين لأرضهم. وهذا نقاش آخر وطويل ولكن لننتبه مثلاً كيف تستطيب «حماس» الفكرة لأنها تعني تحللها من «الاعتراف» بإسرائيل والقول إنها تتفاوض معها سياسياً. فهي مستعدة لقبول اتفاق ذي طابع إنساني لا يعني انها تقيم عملية سلام مع إسرائيل، وتحقق عبره بعض المطالب الحياتية للفلسطينيين من سكان قطاع غزة. وهذا فهم التفافي يضر بمستقبل الصراع والأخطر في كل ذلك ليس في تعامل إسرائيل معنا، بل كيف ينظر العالم لصراعنا مع إسرائيل. إن مثل هذه الحلول تعزز من مقولات إسرائيل أن أزمة الفلسطينيين مع إسرائيل ليست سياسية، فالفلسطينيون لا حقوق سياسية لهم، بل هي أزمة معيشية اقتصادية حياتية. لذا فإن إسرائيل دائماً تطلب من المجتمع الدولي أن يساعدها في التخفيف عن الفلسطينيين ضمن ما يعرف بالسلام الاقتصادي. انظروا في مواقف نتنياهو منذ ولايته الأولى حتى الرابعة، تجدوا أن هذه هي الفكرة المركزية فيها كلها.

ولكن لننتبه كيف انتقلت إسرائيل إلى التركيز على فكرة المطار والميناء. فهي رغم التزامها بالنظر في بناء مطار وميناء بعد وقف اطلاق النار بعد عدوانها على القطاع في صيف 2014، إلا انها لم تناقش الأمر فور خمود فوهات البنادق ووقف زخات الصواريخ الفلسطينية، وتنكرت لكل النقاط التي تم التوصل إليها والتي تمتد من مساحة الصيد حتى المناطق الحدودية. ناهية عن القضايا الكبرى المطار والميناء. بعبارة أخرى حتى حين تقترح إسرائيل معالجة المطار والميناء فهي لم تقبل أن يكون ضمن تفاهمات سياسية عقب الحرب. صحيح أنها قالت إنها ستنظر في الأمر، لكنها الأن تطرحه ضمن سياقات جديدة ومختلفة.

إنها السياقات التي تطورت في الوعي السياسي الإسرائيلي تجاه قطاع غزة. السؤال حول العلاقة مع غزة لم يتوقف منذ احتلت إسرائيل القطاع عام 1956 إثر العدوان الثلاثي. لم ترد إسرائيل يوماً أن تحتفظ بالقطاع الذي لا تشهد له التوراة إلا بالصراع الدامي مع الفلسطينيين الذين أسروا شمشوم الجبار. وحتى قبر شمشون المعروف في غزة لم تقم إسرائيل بالاحتفاظ به و لم تفد قوافل غلاة المتطرفين ليقدسوه، فيما يمكن لقبر تاجر نابلس ي صدف ان اسمه يوسف أن يكون منطقة صراع دموي. بعبارة أخرى إسرائيل لم ترد قطاع غزة ولم تتردد في اللحظة التي بات فيها يشكل ثقلاً عليها أن تخرج منه. العلاقة مع القطاع تطورت مؤخراً إلى السؤال الكبير ماذا نفعل بقطاع غزة؟.

بعد ثلاث حروب متتالية اعملت ما أعملته من دمار وقتل في القطاع، باتت إسرائيل أكثر استعداداً لأن تدير ظهرها لقطاع غزة. لا بأس لو كان لهم مطار وميناء ولكن تحت إشراف دولي او حتى ربما في المستقبل تحت إشرافهم وبالتالي تصبح إسرائيل خالية طرف فيما يتعلق بالقطاع. بعبارة أخرى ليذهب القطاع إلى مصيره. كما أن فكرة حماس حاكمة للقطاع لم تعد تقلق إسرائيل طالما كان بمقدور إسرائيل الحفاظ على علاقة أمنية وعسكرية مع القطاع تحفظ لها مستوى مرتفعا من الردع. بعبارة أخرى فإن هذا يعني فصل مصير القطاع السياسي عن باقي فلسطين، وعليه فإن حماس شاءت ذلك علانية أم رفضته عليها قبوله ضمن اجراءات اللعبة الجديدة. بالنسبة لاسرائيل فإن حماس قادرة على حكم القطاع ويمكن لها أن تستمر في حكمه لعقد آخر، وتتمتع بقوة معقولة فيه، بالتالي لماذا الانجرار كل يوم إلى حرب جديدة إذا كان يمكن ترتيب نوع من العلاقات، ولو عبر وسطاء، يضمن الهدوء في الجبهة الجنوبية.

من هنا فإن الحديث عن المطار والميناء ليس إلا حديثاً عن ما هي أفضل السبل للتخلص من عبء القطاع السياسي. انتبهوا فالمطار لغزة وليس للفلسطينيين والميناء لغزة وليس للفلسطينيين.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد