طبعاً هناك مشكلة اسمها شحّ الموارد المالية للحكومة، وطبعاً هناك عجز متصل ومتواصل جراء الهوّة ما بين حجم الالتزامات الخارجية تجاه السلطة والحجم الحقيقي الذي يصل إلى الخزينة فعلياً، وطبعاً هناك مشكلات كبيرة ناتجة عن محدودية القدرة على التوسع في مجال تنمية التحصيل الضريبي، وهناك عشرات الأسباب التي تتعلق بضعف الموارد وهشاشة الوضع الاقتصادي للبلد...!!
وصحيح، أيضاً، أن الحلول المطروحة من قبل المعلمين سترتب على الحكومة أعباءً إضافية قد لا تكون قادرة في المدى المرئي على تحمّلها.
كذلك، لا يمكن تجاهل الأعباء المرتبة على المزيد من تراكم الدين العام والآثار الخطيرة التي يمكن أن تؤدي إليها سياسة اللجوء إلى المزيد من الاستدانة لمعالجة أعباء والتزامات مباشرة.
كل هذا طبيعي وكل هذا صحيح ولكن .....
أزمة المعلمين وحقوقهم ليست جديدة والأعباء التي تترتب على إيفاء هذا القطاع الهام كانت ماثلة أمام الحكومة الحالية وأمام الحكومات السابقة، ولم يتم ولو لمرة واحدة التعامل مع هذه الحقوق بصورة جذرية وكافية وشافية على الرغم من أن هذا القطاع هو الأحق بالمقارنة مع القطاعات الأخرى وذلك للأسباب التالية:
أولاً: إن هذا القطاع ولكونه القطاع الأوسع كان يجب أن يحظى بالأولوية من كل المعالجات لكونه القطاع الأوسع بالذات، ولأنه يحقق مطالب لمئات آلاف المواطنين تعتاش من رواتب وحقوق المعلمين.
هناك من يعتقد ويقيس الأولويات في بلادنا بصورة مقلوبة على رأسها. وهناك من يعتقد أن صغر حجم الفئة التي تطالب بحقوقها بالمقارنة مع قطاع المعلمين هو الذي يحدد أولوياتها، وذلك بالنظر إلى قدرة الحكومة الأعلى على الاستجابة لها. وهذه النظرة بالذات ليست مجرد نظرة قاصرة وإنما خاطئة على طول الخط، وهي نظرة غير تنموية ومخالفة لأسس السياسة الاجتماعية المطلوبة، وهي تنمّ عن فشل منهجي في إدارة المال العام والموارد المالية.
ثانياً: قطاع التعليم هو الأحق لأننا نتحدث كثيراً عن تراجع مستوى التعليم، ونصيغ الاستراتيجيات الكبيرة للارتقاء بمستوى التعليم ورفع سوية ونوعية هذا التعليم دون أن «ندرك» أن المعلم هو عماد هذه العملية من أولها وحتى آخر نبض فيها.
وكأننا هنا ندخل أنفسنا في تناقض صارخ ما بين النظرية وما بين الواقع.
الطموح نحو تحسين نوعية التعليم بدون أن تكون قد أنجزت على الأرض وواقعياً مهمة الوفاء بحقوق المعلم تشي بأننا في الواقع نعيش خارج هذا الواقع، بل واننا نتحدث عن أولويات مقلوبة على رأسها مرة أخرى.
ثالثاً: قطاع التعليم هو الأحق لأن مفتاح القدرة على الصمود والمجابهة مع الاحتلال مرهون بقدرة الفلسطيني وبوعيه، وقطاع التعليم بالذات هو القطاع الأكثر تأثيراً في هذين العاملين بالذات.
ولذلك فإن الحديث عن الصمود الوطني والمجابهة مع الاحتلال بمعزل عن القطاع الأكثر تأثيراً هنا هو بالضبط حديث مقلوب على رأسه.
معروف لدى كل من تجاوز مرحلة الأمية الثقافية في مجال علوم التنمية ان قطاع التعليم والصحة والعمل هما مثلث كل تنمية اجتماعية، وان لا مجال للحديث عن تنمية الموارد البشرية والوصول إلى ما بات يعرف بالتنمية المستدامة خارج أضلاع هذا المثلث، تماماً كما هو معروف بأن أي تنمية اقتصادية خارج العلاقة العضوية بالتنمية الاجتماعية هي تنمية فاشلة سلفاً، لأنها كما أثبتت كل الوقائع في كامل تجربة البلدان النامية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا. لقد كان الانفصام ما بين وسائل وأدوات التنمية الاقتصادية وأبعادها الاجتماعية هو عنوان هذا الفشل، وهو بالذات الذي أدى إلى كل التطورات التي شهدها الفكر الاقتصادي العالمي باتجاه خطر هذا الانفصام.
قطاع التعليم هنا هو قطاع محوري، في حين أن الواقع يقول بأن الإهمال المتراكم لهذا القطاع بالذات هو مؤشر واضح على أن الأمور في بلادنا تسير مقلوبة على رأسها.
إذن هناك أزمة حقيقية بدأت من هنا وما زالت مستمرة تتعلق بالرؤى والفلسفة والنظرة لهذا القطاع وكل قصور هنا هو عنوان فشل معلن.
أما المعالجة لأزمة الإضراب الأخير فحدّث ولا حرج. فبدلاً من الحكمة والروية ومحاولة الاحتواء على قاعدة الاحتضان تم اللجوء إلى إنكار الواقع ـ وهذه سمة من أكبر سمات النظم الشمولية وهي لا تليق بشعبنا وتراثه وتراث حركته الوطنية ـ كما تم اللجوء إلى إجراءات أقل ما يقال عنها إنها فوقية واستعلائية واستهتارية، ناهيكم طبعا عن وضع أجهزتنا الأمنية والتي هي أجهزة وطنية رغم كل ما يحاول أن يتطاول عليها في مواقف لا تحسد عليها.
أن تجري محاولات لركوب موجة إضراب المعلمين فهذه مسألة طبيعية، وأكاد أقول إنها «مشروعة» من قبل من يتصيدون لها وهي مسألة متوقعة تماماً في الواقع الفلسطيني.
وأن يجري إذكاء الأمور إلى حدود خارج نطاق المنطق الوطني فهذا أمر معيب ولكنه موجود في واقعنا مع الأسف الشديد.
لكن أن يتم إنكار الأزمة، وأن يتم تصنيف أزمة الإضراب وكأنه مؤامرة مدبرة بعناية، وأن يكون سلوك الحكومة قائما على هذا الأساس بالذات فهذه أزمة أكبر من كل الأزمات.
أزمة الإضراب هي أزمة صغيرة بالمقارنة مع أزمة فهم الحكومة لهذا الإضراب ولأسبابه ودواعيه وتراكماته.
وسيؤدي إضراب المعلمين إلى أزمات أخرى أكبر أو أصغر منها قليلاً ما لم نجلس بهدوء ونعاود لدراسة هذه الأزمة ومحاولة حلها بصورة جذرية، وبذلك فقط تتفادى الأمور.
وضعنا لا يحتمل ولا يتحمل سذاجات فكيف له أن يتحمل ما هو أسوأ منها؟؟؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية