يمكن بسهولة الالتفات إلى عدم انتباه المواطنين واهتمامهم بموضوع المصالحة الوطنية، بل يمكن الجزم أن الجولة الحالية ربما تكون أقل جولة تحظى باهتمام المواطنين ومتابعتهم. 
وربما يمكن أيضاً الالتفات إلى غياب الشغف الإعلامي أيضاً بتفاصيل ما يجري، وقلة ما ينقل سواء كما اعتادت الصحافة خاصة غير المهينة منها، وهي كثيرة للأسف في بلادنا، والزعم بحصرية ما تقول، أو من خلال إعلانات مشتركة بين الطرفين، فالمواطن غير آبه، كما يبدو، والإعلام لا يتابع كثيراً من التفاصيل، وكأن ما يجري يدور حول تحقيق مصالحة في مكان آخر، أو في كوكب مختلف. والحال بالطبع لا يعكس موقفاً من المصالحة كغاية وهدف للمواطنين بقدر ما يعكس فجوة الثقة الكبيرة بين المواطنين وبين المحاورين، أو غياب هذه الثقة حين يتعلق الأمر بالقضية موضع الحوار.
بالطبع هذا لا يعني أن المواطن غير مهتم وأن الصحافة غير معنية. ما يعنينا في هذا المقام هو تلك الفجوة في الثقة بين المواطن وعملية الحوار الوطني. فجوة عميقة يمكن تلمسها من خلال أحاديث الناس ومواقفهم وتعليقاتهم. 
والأهم من ذلك غياب الحديث عند الناس عن المصالحة وعن جولة المفاوضات الحالية، فيمكن لهم أن يتحدثوا عن المنخفض الجوي الحالي أو أزمة الجامعات في غزة دون أن يحسوا ولو لبرهة أن ما يجري في الدوحة أو غيرها من العواصم العربية يتعلق بمصيرهم. وهم بذلك ليسوا مواطنين ناقصي الوطنية والاهتمام، بل هم مواطنون مخلصون ومهتمون أكثر من اللازم، لكنهم يدركون أن الجعجعة هذه المرة كما كل مرة سابقة بلا طحن. 
حسناً فعل المتحاورون بعدم تعليقهم اللحظي على كل ما يجري معهم في غرف الحوار، فللمرة الأولى لا نرى الكثير من الناطقين الرسمين يقفزون على الشاشات يزاحمون المذيعين في الظهور المستمر خلف الكاميرات، يدلون بتصريحات مختلفة، متباينة ومتناقضة، بل وفي مرات يختصمون على الشاشة، ويصل بهم الأمر إلى السب والزعيق. حسناً فعلوا هذه المرة بأنهم تركوا هذه العادة السيئة، حتى يعطوا فرصة أعمق وأطول للنقاش وتبادل المواقف. 
وأيضاً حسناً سيفعلون إذا ما صاموا عن الكلام ولم يدلوا بأية تصريحات في حال فشلوا في مفاوضاتهم الجديدة، أي أنعموا علينا بالسكوت بدل أن يعطونا المزيد من جرعات اليأس وعدم وجود مستقبل. 
ربما سيقدر لما يجري أن يكون مجرد جولة أخرى في مشوار طويل، ولن نصاب بالجلطة والخيبة لأننا تعودنا على التوقعات العالية المتبوعة بخيبات وانكسارات عميقة. 
وربما في أحسن الأحول سيقدر لها أن تكون جولة جديدة من أجل تجميل الانقسام ولكن هذه المرة ليست عبر حكومة وفاق بل حكومة وحدة وطنية. يظل الانقسام ولكن نبدو متحدين عبر حكومة مشتركة. وربما أيضاً يتم تمديد عمر المفاوضات بأشهر أخرى عبر القول: إن الأمر معقد وهو بحاجة للمزيد من النقاش. 
ثمة "ربمات" كثيرة، لكن الأهم في كل ذلك أن يتم إعطاء المواطن فسحة أخرى من الأمل، حتى يستطيع أن يفكر بالغد الذي ينتظره.
لننتبه أن عمر المفاوضات (لا تختلف كثيراً عن مفاوضات السلام). الحوار الوطني سيدخل الشهر القادم عامه التاسع، وبكلمة أخرى وإذا ما حسبنا عمر عملية السلام الفعلي فإن هذا يعني قرابة نصف عمر أوسلو إذا ما اعتبرنا أن المفاوضات توقفت عام 2012 أو إذا أراد شخص ما أن يحتسب نهاية عملية السلام من العام 2000 حين اندلعت الانتفاضة أو العام 2001 حين توقفت آخر جهود كلينتون في ذلك الوقت، فإن عمر مفاوضات الحوار الوطني سيزيد عن العمر الحقيقي للمفاوضات مع إسرائيل، وفي مرات كثيرة تبدو أكثر صعوبة منها.
في مقال قديم، كتب الراحل الجميل زيد أبو العلا حول الإصلاح الذي كان موضة في نهاية العقد الأول من عمر السلطة قبل اندلاع الانتفاضة الثانية. 
كان الجميع ينادي بالإصلاح، وبضرورة إعادة الثقة لمؤسسات السلطة وترميمها، وطرد الفساد منها وتنقيتها من الممارسات غير السليمة والعودة للحكومة الرشيدة، بل وصارت تلك المصطلحات موضة بحد ذاتها، وصار المثقفون والكتبة وأباطرة المجتمع المدني يستطيبون استخدامها وتكرراها على الطلعة وعلى النزلة، وبعد أشهر قليلة ستصبح مصدر استرزاق جديد لهم وأجندة أخرى من أجندات الدعم الخارجي، الذي تعني المزيد من ضخ الأموال دون نتيجة فعلية. في مقاله قال زيد أبو العلا: إن الجميع يريد الإصلاح، فالحكومة تريد الإصلاح، والتنظيمات تطالب بالإصلاح، والمجتمع المدني ينادي بضرورة الإصلاح، والمجتمع الدولي يضغط من أجل تنفيذ الإصلاح، بل إن إسرائيل تهدد السلطة بضرورة إجراء عملية إصلاح لطرد الفساد، وجامعة الدولة  العربية غاضبة من الفساد المستشري في السلطة الفلسطينية، والأمم المتحدة غاضبة أيضاً. 
الكل غاضب وينادي بضرورة إصلاح السلطة، حتى الوزراء أنفسهم والمجلس التشريعي المسؤول عن الرقابة على أداء الحكومة، وحتى أن التنظيم الحاكم فتح ومعارضيه في التيار الوطني والإسلامي، الكل ينادي بالإصلاح. 
النتيجة التي توصل لها أبو العلا، وهي نتيجة حتمية ضمن هذا النسق من المطالبات والمناشدات أن الفاسد هو الشعب. 
في المصالحة قد تبدو المقاربة السابقة حقيقة وممكنة، إذ إن الفصائل مع المصالحة. 
الفصيلان الكبيران مع المصالحة فهم يتحاورون ويتبادلون الاتفاقيات ويشكلون الحكومات، والانقسام لا ينتهي، وبقية الفصائل أيضاً تطالب بالمصالحة وتطالب بتحقيقها، حتى ممثل الأمين العام ومبعوثه لعملية السلام طالب قبل أيام في مؤتمر صحافي في غزة الفلسطينيين بتحقيق المصالحة، وكذلك الوفود الغربية التي تأتي لزيارة غزة. ناهيك عن جامعة الدولة العربية والمجتمع المدني والمنظمات الشبابية وكل طرف في الداخل والخارج يطالب بإنهاء الانقسام. 
والنتيجة وفق القياس السابق هي أن المنقسم هو الشعب والشعب هو الذي يرفض تحقيق المصالحة ويرفض كل دعوات الأطراف لإنهاء الانقسام.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد