كل شيء في مجتمعنا بات غريباً، كغربة التيه التي يعانيها كل مواطن كان قدره أن يحيا على هذا التراب، والأصل في كل هذه الطلاسم التي تحيط بحياتنا هو حالة التداعي التي وصلت لها قيمنا وأخلاقنا ومعاييرنا التي نحكم بها على الأشياء وعلى الناس، وجولة صغيرة على محطات مختلفة من مشاهدنا اليومية كفيلة بأن تجعلك تضع يدك بسهولة كبيرة على موطن الخلل المتمثل في الفساد الذي لا دين له ولا هوية ولا انتماء ولا لون ولا طعم ولا رائحة، فقط جسم هلامي زئبقي بالكاد تُبصر الكيفية التي غزا فيها حياتنا وضرب بها أطنابه في كل شأن معيشي، من أدنى سلم المجتمع وحتى قبابه ونواصيه وأهراماته.

فاترينا حذاء، مصيره المحتوم أن يوضع في الأقدام وتداس به الطرقات والشوارع، وينتهي به المطاف إلى حاوية القمامة بعد نفاذ صلاحية استخدامه، ومع ذلك يجري اختيار فاترينا زجاجية لامعة أنيقة ثمينة ومضيئة كي يوضع فيها هذا الحذاء قبل أن يجري ابتياعه، في مقابل ذلك، نجد اللحوم التي تشتهيها الأنفس، التي تقيم الإصلاب، وتقوي الجسد، وتزرع فيه الحياة، معلقة على "كلاليب" على قارعة الطريق، تتعرض لكل أنواع الملوثات، ومختلف أشكال الفايروسات والبكتيريا والجراثيم، رغم أنها ستذهب بعد ذلك إلى أفواه البشر!!!

النتيجة أن الشعب الذي يضع "أحذيته" في فاترينا، ويعلق "لحومه" على قارعة الطرق، هو شعب فقد بوصلته، وأضاع معاييره، وغلب نزعاته على ينبغياته، فكبت به الفرس، وتراجعت مسيرته الحضارية إلى محطة تستوجب التوقف عندها بأسرع وقت ممكن. وراثة مسؤول فاسد، أنجب ابناً، أقل ما يقال أنه نسخة من أبيه، فكان تحصيله العلمي ضعيفاً، مبني بالأساس على الغش والرشاوى والواسطات، ولأن والده يجيد كسب معاركه دون نقطة عرق واحدة، ولأنه يعرف منذ البداية كيف تؤكل الكتف، فإن المكان الطبيعي للابن هو في ذات الموقع الذي تبوأه أبوه من قبل، في مقابل ذلك، هناك مواطن بسيط وضعيف ومقهور ومغلوب على أمره، بالكاد يتدبر لقمة عيش عياله، ينجب ابناً يعرف أن الدنيا تؤخذ غلابا، فيجد ويجتهد ويصبر ويصابر، ثم يكون تحصيله العلمي مبهراً ومرتفعاً وذو جدارة وقيمة وحضور، وتكون النتيجة أن الأب لا يجيد كسب معاركه إلا بالدم والعرق، ولا يعرف كيف تؤكل الكتف ولا حتى الساق، وبالتالي يصبح مصير الابن كمصير أبيه، يكافح فقط من أجل البقاء. إيمان مسؤول شاب ونشيط وطموح، ينتظر مستقبلاً يختلف عن مستقبل أقرانه، ويواصل مسعاه من أجل الوصول إلى القمة، يعتمد في أول تجربته على مجموعة من الهواة، وبعض ضعاف النفوس، وبعض من تغريهم الدنيا والمواقع، فيتسببون بانتكاسات خطيرة تكاد تعصف بالمسؤول الشاب، وتكون وجهته أن يواصل سيره بعيداً عنهم وعن أمراضهم التي لا سبيل لمعالجتها، يصطدم برأس العشيرة، ويجد نفسه بحاجة إلى إعادة بناء هياكله ومؤسساته وشخوصه، استعداداً لعودة يتمناها قريبة على رأس القبيلة، يلتفت يُمنة ويسرة، فلا أمامه سوى ذات الشخوص الذين استعان بهم من قبل فأودوا به في مهاوي الردى، والغريب أنه ينسى أو يتناسى كل ما سببوه له من معاناة، ويعود للاعتماد عليهم، وهم يعودون لممارسة هوايتهم المفضلة في البحث عن كل سبيل لتحسين مستوى معيشتهم على حساب المشروع، شخوصاً بنى وهياكل ومؤسسات، والنتيجة في الغالب ستكون انتكاسة أخرى، ربما لا قيامة بعدها، فهل من الإيمان أن تُلدغ من الجحر مرتين؟!!!

وبعد،، يواصل الفلسطينيون مسعاهم نحو الحرية والاستقلال، ويجابهون على كل الصعد من أجل النهوض بتجربة وطنية تكفل لهم العيش بكرامة وتؤسس لأجيالهم مشروع الدولة الحلم، بينما تظل كل أدوات فعلهم قاصرة وعاجزة ومترددة وغير ذات جدوى في إحداث التغيير المطلوب، بينما كل الخطوط مهما بلغ صغيرها تشير بوضوح إلى أن البوصلة الحقيقية التي تقود إلى الشمال المغناطيسي وطنياً هي بوصلة الشفافية والانتصار للكفاءة والاعتماد على أهل العلم والدراية والاختصاص، وأن أول سبل الانتصار هو بالانتصار على الثغر الأسود الذي ينخر في الجسد الوطني ممثلاً في الفساد بأنواعه، ولا أمل في نهضة ولا تحرير ولا اصلاح إن لم يجري علاج هذا الداء المستشري في الجسد الوطني اليوم قبل الغد، فلا ناصر لقضايانا إن لم نكن أول مناصريها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد