خسارة أننا لم نعد نكتب عن تداعيات التطورات الإقليمية على القضية الفلسطينية، ولم نعد نكتب عن هذا الغول الإسرائيلي الذي ينتزع عظامنا ويفتك بنا ويهدد وينفذ ليل نهار .. نكتب فقط عن المستنقع الذي أوقفنا به المتصارعون على السلطة والذين استبدت بهم شهوتها فأصبحت الأولوية الوطنية هي إنهاء الانقسام .. وكتبنا كثيرا بتكرار ممل وثقيل على القارئ لكن كل أصوات الكتاب وأقلامهم لم تكن ذات وزن أو قيمة في عالم المصالح.
نحن جزء من بنية العقل العربي الإقصائي، ويبدو أن مستوى الوعي لدينا لم يصل إلى درجة النضوج في ممارسة السياسة وإلا لما كان كل هذا الخراب في الإقليم والذي بدأ عندنا في قطاع غزة بالقتل والسحل، وما زالت آثاره أكثر تدميراً بفعل انعزال القطاع عن العالم الخارجي وحالة اليأس التي وصل إليها شبابه الذين يحترقون أو يشنقون أنفسهم انتحاراً. فهناك جيل كامل تساوى لديه الموت بالحياة وما زال المتحاورون يمتلكون من الوقت ما يسمح بإهدار المزيد منه في تصورات خادعة، تلك التصورات التي تسمح بمزيد من إهدار الدم والأرض والوقت وتستولد مزيدا من المعاناة والألم.
القارئ بموضوعية لطبيعة الانقسام وما استولده يدرك أن ما حدث يصعب التئامه، لأن الأمور ذهبت باتجاهات متضادة حد العظم، وأن لا عودة عنها وبات الحديث عن المصالحة أشبه بالحديث عن الغول والعنقاء والخل الوفي لأن هناك برنامجين متضادين وكل منهما ينتظر أن يعلن الآخر إفلاسه، ودون ذلك لا يمكن التوصل لشيء، وإلا لماذا فشلت كل المحاولات السابقة ليست لغياب الإرادة، فالإرادة ليست سوى تعبير لموازين القوى على الأرض، وعلى الأرض ما يجعل الحل مستحيلا.
كيف يمكن أن ينتهي الانقسام؟ هو السؤال الذي يشغل الرأي العام، فالشارع الفلسطيني يعرف تماما ولديه من وصفات العلاج ما يمكن أن ينشله من تلك الأزمة، ولكن تلك الوصفات فقيرة من القوة التي تمكن تنفيذها، ولكن السياسة لها منطقها الذي يأخذ بالاعتبار فرادة التجربة ومستوى الوعي الذي سبقت الإشارة اليه، ووفقا لممكن الوعي الفلسطيني ينتهي الانقسام بواحدة من المعجزات الثلاث التالية :
الأولى: أن يتم حل السلطة، ومع حلها يتم التحلل من كل الاتفاقيات التي ترفضها حركة حماس وتتحول الحالة الفلسطينية إلى مجموعات مسلحة، ولن يبقى شيء مختلف عليه باعتبار أن الصراع الحالي على السلطة ويتعلق  بتقاسمها "الحكومة والمعابر والموظفين وأجهزة الأمن" وهذه قضايا مرتبطة بوجود السلطة وامتيازاتها، وإذا ما حلت السلطة نفسها لن يبقى شيء مختلف عليه، وهكذا تقبل "حماس" بالمصالحة لأن كل الشروط التي تضعها لا تنسجم مع كيانية السلطة، على نمط تحويل السلطة إلى سلطة مقاومة أو وضع برنامج للسلطة يتعارض مع الأساس الذي قامت عليه كما يقول الدكتور محمود الزهار "نريدها مصالحة على أساس المقاومة وليس على أساس التنسيق الامني" ولكن خيار حل السلطة ارتباطاً بالمسار التاريخي أو بقبول حركة فتح بذلك يبدو مستحيلاً.
الثانية: أن تقرر حركة حماس الاعتراف بالسلطة واتفاقياتها وتعلن التزامها بما التزمت به وتقرر حل جناحها العسكري وتسليم سلاحها وتعترف بشرعية سلاح واحد وهو سلاح السلطة فقط، وتعلن إسقاط الخيار المسلح في الصراع مع إسرائيل وتدعو للمشاركة في الحكم وفقا لخيار السلطة، وهذا من المستحيل أن يحدث بل سيبقى عقدة تقف أمام كل محاولات المصالحة هو نشوء هذا الواقع المتعارض مع الالتزامات الدولية.
أما المعجزة الثالثة، فهي أن تلتقي حركتا "فتح" و"حماس" وتتبادلان حديثاً هادئاً مضمونة أنهما في السلطة منذ أكثر من عقد، وقد استغلا تفويضاً أعطى لمدة أربع سنواتُ، وهذا ليس من حقهما بالمعنى الإنساني والقانوني والأخلاقي، بل هو مصادرة واعتداء على حق الشعب واستمرار التصرف بممتلكاته دون وجه حق، فالأرض والحكم والمعابر والمياه والبحر والجبال والشجر ملك لهذا الشعب، وأن الاستمرار بهذا الشكل هو استمرار لاغتصاب إرادته، وهذا لا يجوز، ومن أجل تصحيح هذا الخطأ يجب الدعوة لانتخابات عامة تعيد للشعب صاحب السيادة سلطاته، وخاصة أننا عجزنا عن إيجاد حل للانقسام، فلنذهب للشعب وهو يقرر من جديد أي برنامج يريد، فإذا اختار حركة فتح فهذا يعني التسليم بخيار السلطة وعلى حركة حماس الالتزام بهذا الخيار، وإذا اختار حركة حماس وقرر قلب الطاولة فلديه كامل الحرية ويتحمل كامل المسؤولية، فلا أحد وصي على الشعب.
هذه المعجزة هي رابع المستحيلات بل وأصعب من سابقاتها، حيث تتطلب وعياً مختلفاً للمستوى الذي يمارس الفلسطينيون فيه لعبتهم السياسية بفشل واضح كما اللقاءات التي تجمعهم منذ سنوات، وعياً سياسياً يتجاوز حدود ثقافة المنطقة العربية السياسية أكثر حضارياً في مفهومه للدولة وفصل المؤسسات وفهمه للقانون والدستور وحرية المواطن وغير ذلك من المفاهيم التي تسود في المجتمعات المتقدمة والدول الديمقراطية.
أغلب الظن أن الفصائل باتت تدرك أن المصالحة تحتاج لمعجزة أن ينتهي واحد من البرنامجين المتعارضين وباتت تدرك أن أحداً منهما لن ينتهي، فكل منهما له من القوة ما يمكنه من الاستمرار، سواء برنامج السلطة التي تأسست بقرار دولي وأصبحت اتفاقياتها هي من يسير علاقاتها الدولية وينظم علاقتها مع إسرائيل وما يتبعه ذلك من تنظيم لحياة الفلسطينيين الإدارية والإنسانية، بينما برنامج حركة حماس الذي يعلن التمرد على السلطة ويستخف بالتزاماتها، فهو يمتلك من القوة على الأرض ما يمكنه من الاستمرار وفرض حقائقه، والأهم أن أصحاب الخيارين يزدادان قناعة كل ببرنامجه ليس ارتباطاً بما حققه بل قياساً على فشل إنجازات الآخر.
إذ ترى حركة حماس أن فشل خيار المفاوضات مع إسرائيل هو نجاح لبرنامجها، ما يجعلها أكثر تمسكاً بل وتذهب لمطالبة السلطة بتبني ذلك الخيار دون الأخذ بعين الاعتبار لتكوين السلطة السياسي وصفتها الاعتبارية، وبالمقابل ترى السلطة وحركة فتح في فشل "حماس" في تحقيق أي إنجاز بالخيار العسكري، بل وفي حالة الدمار التي حلت بقطاع غزة في الحروب الثلاث من حكم "حماس" وحالة الحصار دليل على فشل ذلك البرنامج، ما يزيدها تمسكاً بخيارها. وفي ظل تلك المعطيات يبدو إقناع أي من البرنامجين بضرورة إعادة النظر ليس أكثر من مطالبة خيالية بعيدة عن الواقع القائم الذي ساهمت إسرائيل بصناعته لتصل إلى هذه القناعات الانقسامية الراسخة رسوخ الجبال، وتلك هي الوصفة الأكثر نجاحاً لاستمرار الانقسام إلى ما لانهاية.
المؤسف أن ليس هناك حلولا وسطاً  لهذين البرنامجين كما يتمنى البعض ببراءة، وخاصةً أن النموذج الماثل في قطاع غزة منذ حكم حركة حماس هو تطبيق عملي لدمج برنامجي السلطة والمقاومة، وبالإمكان قراءة ما خلفه هذا البرنامج من نتائج والقياس عليها، فهل نتمنى للشعب الفلسطيني تكرار نموذج غزة حتى نستمر بالحديث عن سلطة المقاومة؟ الأجواء ليست وردية، والوضع صعب، يعرف ذلك متحاورو التصور العملي الذين راهنوا على ذاكرة الشعب القصيرة، فمن سيسأل عن حوار الدوحة الأسبوع القادم؟ لا أحد ..
ليس هناك حل سوى أن يقرر صاحب السلطة استعادة سلطته بالاحتجاج السلمي، وإلا فلننتظر المعجزة في زمن انتهت فيه المعجزات أو نترك الأمر للتاريخ، ولكن علينا الكف عن خداع أنفسنا مرة أخرى ..!

Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد