تحتمل الإجابة على السؤال السابق الإيجاب بالقدر ذاته الذي تحتمل النفي. ولوهلة قد تبدو ممكنة جداً، ثم سرعان ما تتبخر الآمال ويصبح تحققها أكثر صعوبة من تحرير فلسطين الآن. كما يمكن لكل محاور أن يسوق مليون سبب تجعل تحققها أمراً سهلاً، ومليون سبب آخر تجعل منه سابع المستحيلات. وإذا ما أضيف للنقاش الضفة التي تقف عليها من النهر، فإن ثمة عوامل كثيرة متقاربة ومتباعدة تحمل تعقيدات كثيرة للإجابة. وليس من شك أن مثل هذا السؤال كان أكثر سهولة في السابق، كما أن التوقعات بشأنه كانت تلفت انتباه المواطن أكثر مما تفعل الآن أي حوارات مرتقبة لتشكيل حكومة وحدة وطنية.
يمكن بقراءة السياق الفلسطيني الآن القول، وتحديداً، بعد اتفاق الشاطئ الذي وفقه تم تشكيل حكومة الوفاق، التي لم تنجح، إن الإنقسام بات جزءاً أساسياً من النظام السياسي الفلسطيني، وأن جولات المفاوضات (وليست الحوار) الوطني لم تهدف للقضاء عليه، بل للتغلب على بعض الفنيات التي تجعلنا نبدو منقسمين. وكأننا كنا نبحث عن صيغة نكون فيها منقسمين وموحدين في نفس الوقت. وعليه فإن البحث لم يكن عن انهاء الانقسام ولكن تحقيق المصالحة. اللغة حمّالة أوجه، والكلمات أقنعة، لذا من السهل إيجاد تفريق لاهوتي واصطلاحي بين انهاء الإنقسام وبين المصالحة. على كل حال فإن الإنقسام ظل طوال السنوات الثمانية السابقة الطفل المدلل للحوارات الوطنية. الطفل الذي يقول الجميع إنه لا يرغبه، لكن وجوده أمر لا يمكن تجاوزه. ومع الوقت صار الحفاظ عليه جزءا من الحفاظ على العلاقات الوطنية حتى لا ينهار نسيج تلك العلاقات. بل إن أجسام وهيئات وطامحين وطامعين ومستوزرين وجدوا في مظلة الإنقسام الفيء الذي كانت الديمقراطية الحقيقية ستحرمهم منه.
وحتى لا يبدو هذا القول دعوة للتشاؤم، فإن حقيقة كل ما قيل لا ينفي المرارة التي كانت تنتاب كل غيور وهو يستعرض حال البلاد والسياق العام والحاجة لتطوير استراتيجية وطنية موحدة جماعة تصلح لأن تكون الخطوط العامة للجميع مع احتفاظ الجميع بخصوصيته. لكن إذا كانت الأمور تقاس بخواتيمها، فإن الفشل في الماضي لا يقترح إلا فشلاً آخر في المستقبل، ما لم تتغير الظروف والدوافع التي تجعل البحث عن النجاح قصة حياة أو موت.
ولكن بالعودة للسؤال الذي يطرحه عنوان المقال: هل حكومة الوحدة الوطنية ممكنة؟ فإن الإجابة تحمل الـ»نعم» والـ»لا».
هي ممكنة في ظل الظروف والسياقات الآنية لأكثر من سبب. ف» حماس » تبحث عن طريقة تخفف عنها أعباء الحكم في غزة دون أن تتنازل عن الحكم. فحماس لم تجن شيئاً من حكومة الوفاق. والقيادة الفلسطينية بحاجة لأن تبدو أكثر قوة متسلحة بحكومة تضم التنظيمات في ظل مواجهتها مع الاحتلال. وقد يكون مشجعاً لحماس – رغم كل الصراخ الإعلامي الذي نسمعه- أن الرئيس أبو مازن ثبت بشكل قاطع على مواقفه السابقة بشأن المفاوضات ولم يرضخ لكل الضغوطات التي مورست عليه. هي ممكنة لأن التنظيمين الكبيرين بحاجة لقوة دفع جديدة في ظل حالة الإحباط العام التي تسود الشارع. بالنسبة لحماس فإن عدم مقدرتها على دفع الرواتب وازمات الكهرباء والغاز والخدمات العامة تجعل الحكم مجرد حكم أمني، وعليه فإن حكومة الوحدة ستخفف عنها ثقل المهمة. وبالنسبة ل فتح فإن انغلاق الأفق السياسي وتعثر الوضع الإقليمي وتعقيدات تطوير السلطة إلى دولة يجعل الطريق الحتمي الوحيد هو البحث عن القوة الداخلية المتمثلة في المصالحة الوطنية تحت شعار تعزيز الصمود الداخلي وتمكين الجبهة الداخلية استعداداً للمعركة القادمة.
وهي غير ممكنة إذ لم توفر الحواضن السياسية والمالية اللازمة لها. ثمة قضايا ثلاثة لابد من معالجتها ليس بطريقة الابتسام أمام الكاميرات والمصافحات الرخوة، بل بالغوص عميقاً وبجرأة في التفاصيل. أول هذه القضايا هو معالجة قضية رواتب موظفي حماس في غزة. أسئلة كثيرة لابد من الإجابة عنها، بعضها يتعلق بتوفير شبكة أمان أو صندق وائتمان مالي لدفع هذه الرواتب لفترة لا تقل عن خمس سنوات، وتوفير مبالغ التأمين والمدخرات المالية عن السنوات السابقة، (هل تتوفر هذه لدي حكومة حماس السابقة؟). يمكن لرعاة الحوار تأمين هذا الصندوق على أن لا يكون وعودات بل مبالغ توضع بشكل فعلى في حساب خاص تشرف عليه السلطة.
القضية الثانية هي قضية الأمن والأجهزة الأمنية والعلاقة بينها. من الواضح أن حوارات المصالحة كانت تتجنب الإجابة على هذا الجانب وجعلته مثل قضية المستوطنات في المفاوضات مع إسرائيل. الصعب مؤجل، فيما الحوار الوطني الحقيقي يجب أن يقف على الصعب قبل السهل، لأن السهل مفروغ منه. هل يمكن تطوير عقيدة أمنية مشتركة وموحدة يكون ركيزتها المواطن والأرض بعيداً عن التخوين والشعارات الفارغة؟ كما هل يمكن توضيح العلاقة بين قوى الأمن وبين مجموعات العمل المسلح. بعض هذا الحديث قد لا نكون بحاجة لتفاهمات معلنة فيه، لكننا بحاجة لنوع ما من التفاهمات.
القضية الثالثة تتعلق بالملف السياسي. أنا ضد الحكومة غير السياسية وحكومة التكنوقراط وما شابه، ولكن لغايات انجاح حكومة الوحدة الوطنية فلتكن السياسة من اختصاص التنظيمات التي شاركت فيها. وبما أن ملف السياسة هو من اختصاص منظمة التحرير فإن البحث عن اجراء انتخابات، حيث أمكن، للمجلس الوطني يظل الهدف الذي ينتظر التحقيق. وإلى حين ذلك فإن الحكومة هي حكومة تدير حياة الناس بالتعاون مع التنظيمات التي شكلتها.
ما لم تتحقق هذه القضايا الثلاث فإن حكومة الوحدة غير ممكنة بلا ريب.
أبشروا، فطالما أن المحاورين في عجلة من أمرهم فلن ينجزوا شيئاً، وحين تسمعون أن «كل شيء تمام» فاعرفوا أننا على موعد من نسائم تفاؤل ملحوقة بزوابع من التشاؤم والفشل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية