عشر سنوات مضت وما زال قطاع غزة المثقل بالهموم يعاني ألما وقهرا وحصارا وفقرا وبطالة، الا أن الاثقل هو إنعدام الأمل، هذا الأمل الذي أنتزع من أصحاب البيوت المدمرة وساكني الكرفانات وغيرهم ، أمل مازال يبتعد عن الشباب المقهور العاطل عن العمل من خريجين وغيرهم وعن المرضى الذين يبتزوا من اجل العلاج ، وعن عشرات الالاف من محتاجي السفر الذين تحطمت حياتهم وأحلامهم أمام أبواب وجدران معابر مغلقة ، وأصبحنا أمام واقع يبدع الكل في تشخيصه ووصفه لكنهم جميعا فشلوا في إيجاد الحلول التي تحتاج بالأساس لصدق النوايا.
عشر سنوات تخللتها ثلاثة حروب افقدت شعبنا أحبة ، وفلذات أكباد ، وخلفت دماراً تعجز الأقلام عن وصفه، عشر سنوات مضت و ما زلنا لم نرمم اثار الحرب الأولى . وما أن تنتهي حرب حتى يظهر على السطح بعد فترة وجيزة السؤال الجديد القديم ، المؤلم المتكرر ، سؤال يطرحه الكبير والصغير "متى الحرب القادمة؟! " ، سؤال يحمل دلالات عميقة لا يفهمها إلا أولئك الذين أدمت الحروب قلوبهم ، وكأننا بتنا على موعد متكرر مع جداول حروب مترافقة وجداول معاناة الكهرباء والماء والسفر والتحويلات الطبية.
لقد شهدت الايام القليلة الماضية اهتماما وقلقا دوليا ومحليا جديا حول احتمالية حرب جديدة ، و نحن اليوم في بداية عام 2016 وبعد أن عاش أطفالنا الذين لم يتجاوزوا العشر سنوات من أعمارهم ثلاثة حروب مدمرة ، يعود السؤال نفسه للتردد من جديد خلال الايام الماضية، ولربما كان لذلك ما يبرره وقد يكون من اهمها تلك المبررات ، التحولات المفاجئة في الخطاب الاسرائيلي ووسائل إعلامه اتجاه قطاع غزة ،حيث شهدنا اتهامات متكررة في وسائل الاعلام الاسرائيلية بان حركة حماس في غزة أعطت الأوامر لتنفيذ عمليات تفجيرية داخل إسرائيل، و الأكثر أهمية أيضا تركيز الإعلام الإسرائيلي على قدرات المقاومة والحديث شبه اليومي عن الخطر الاستراتيجي للأنفاق التي يقولون إنها تمتد إلى ما بعد حدود القطاع رغم أن حديثهم عن ذلك في الماضي كان بحذر حتى لا يتسبب بتوتير جبهتهم الداخلية المحيطة بغزة ما أعطى إشارة واضحة للمحللين والمتابعين إنها مرحلة التهيئة التدريجية للجمهور الاسرائيلي ، أتبعت بإعلان جيش الاحتلال نصب القبة الحديدية حول غزة ، وفي المقابل تكررت في الفترة الماضية التصريحات النارية من الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس حول جهوزية المقاومة للمواجهة القادمة وبتنا أمام حرب إعلامية واضحة مترافقه مع حديث الإعلام الإسرائيلي عن تزايد تجارب الصواريخ بشكل شبه يومي في القطاع ،ولعل الأهم أيضا أن قرار بداية الحرب وإطلاق شرارتها لم يعد حكراً على طرف واحد دون الأخر ، ولم تعد معادلة البداية والنهائية في يد أحد دون الاخر ، وهذا ما يدفع الأطراف جميعها الى البقاء في حالة من عدم الاستقرار خشية أن تدفع أي ظروف أمنية أو سياسية أو داخلية أي طرف لإطلاق تلك الشرارة ويحقق مفاجئة للطرف الأخر .
ولا يمكننا الخوض في تلك المسببات دون التطرق الى الأزمة الداخلية في قطاع غزة وخاصة الإنسانية وانعدام الأفق بالتزامن مع إمعان الاحتلال خلال الأسابيع الماضية في فرض إجراءات عقابية جديدة طالت كل شيء حتى مرضى السرطان لم يسلموا منها ، الأمر الذي يدفع البعض للاعتقاد بأن الانفجار في وجه الاحتلال هو الحل المناسب لمواجهة الازمة أو ترحيلها كما يحلو للبعض القول .
وكذلك الامر في الأزمة الإسرائيلية الداخلية الناتجة عن استمرار الانتفاضة والعمليات اليومية التي ادخلتهم في دائرة التخبط واوصلتهم الى الاعلان عن وضع مكعبات إسمنتية حول أكثر من ثلاث مائة موقف للباصات داخل إسرائيل فضلا عن عزل شوارع ومناطق ، لكن الاهم هو عدم توفر أي مؤشر لانتهاء وشيك لهذه الانتفاضة التي تحمل طابعا فرديا للعمليات ، إذ شكل الجمود السياسي الفلسطيني الاسرائيلي أحد الأسباب الهامة لذلك، ما ادى الى تغير مهم في لغة الخطاب الدولي اتجاه الاحتلال ووصل الأمر الى انتقاد مباشر وواضح للسفير الأمريكي في تل ابيب للسياسة الاسرائيلية رغم تسوية الامر لاحقا بينه وبين نتانياهو ، وسبقته الى ذلك وزيرة خارجية السويد بتصريحاتها الشهيرة ضد الاحتلال وسياسة الاعدامات الميدانية للفلسطينيين في نفس الوقت الذي تصدر قرارات هامة وقوية للاتحاد الأوروبي ضد اسرائيل ، الامر الذي جعل البعض يعتقد أن نتنياهو قد يفضل المواجهة العسكرية على الانتفاضة الشعبية لتحسن صورته وحرف البوصلة ، لكن مشكلة نتانياهو هنا انه يريد مواجهة عسكرية وفق مقياسه الخاص و معاييره وتوقيته ومحدداته التي يضعها ، الا انه يدرك في الوقت ذاته ان هذا الامر لم يعد محسوما له وصالحاً في هذه المرحلة وان سيناريوهات اخرى قد تلغي ما يفكر به فضلا عن أن عيناه لم تغمض ولو للحظة عن جبهة لبنان ومخاطرها لذلك ظهر التردد واضحا في مواقفه الأخيرة والمح الاعلام الاسرائيلي لذلك .
وفي قراءة واقعية للمشهد نجد أنه و حتى اللحظة مازال كل طرف لا يرغب بالحرب ، لكن الاطراف كلها في حالة استعداد للدخول فيها بعد دقائق ، إذ يبدو ان حركة حماس ليست معنية في الدخول حالياً في حرب لكنها جاهزة وتعد العدة على مدار الساعة ، وكذلك الأمر اسرائيلياً تماما ، وهنا تكمن الخطورة لأن ذلك سيبقى الجميع في حالة انتظار واستعداد ، كما أن إسرائيل لا تريد حرباً بدون تحقيق الضربة الأولى المفاجئة والتي تأمل أن تقطف من ورائها ثمنا غالياً ، وفي المقابل فإن حماس تصر على عدم منح إسرائيل هذه الفرصة ، لذلك نحن أمام معادلة معقدة قد تستمر وقت طويل ما لم يغير أي طرف من قواعد اللعبة التي تفرضها التطورات السياسية والميدانية ، و التي قد تنهار ايضا في أي لحظة قريبة .
وكفلسطينيين علينا ان نجيب على سؤال هام ، يفرضه الواقع الصعب، وعلى الجميع ان يقف أمام مسؤولياته وان يجيب عليه و هو كيف يمكن أن نجنب شعبنا مزيدا من ويلات الحروب والواقع الصعب الذي يعيشه ؟ .
فشعبنا لم يعد يحتمل المزيد من الحروب الجديدة وهو ما زال يلملم جراحات حروب قديمة ، لكن الأخطر اليوم هو أن البعض يعتقد بالحرب حلا وخروجا من الأزمة ، وهذا نتاج احباط تحول إلى لغة مشتركة بين الناس ولدت من رحم معاناة لا تتوقف ، كما ولم يعد مقبولاً استمرار الوضع الفلسطيني بهذه الشكل وعلينا جميعاً أن نبدأ بالعمل وبنوايا صادقة لنفكر عملياً كيف نجنب شعبنا مزيداً من المعاناة ونوقف التفرد الاسرائيلي بكل طرف على حدا خاصة بعد انسداد الأفق السياسي في الضفة والقطاع ،وأصبحنا امام واقع صعب يحتم علينا التفكير في توفير مقومات الصمود لشعبنا والتركيز على بناء الإنسان وتوفير التنمية والحياة الكريمة له ، نحن بحاجة ماسة لعمل وطني مشترك على الاقل لمواجهة الواقع الصعب الذي تتحدث عنه كافة المؤسسات الدولية وهو الواقع الانساني لقطاع غزة في عام 2020 ،نحن بحاجة ماسة للتفكير والعمل على اعادة الثقة في نفوس شعبنا المثقل بالهموم .
لا يمكن لأي طرف ان يحصل على كل ما يريد في أي اتفاق ،و قد اتفق مع البعض الذي يقول ان مجرد الحديث في المصالحة فيه مضيعة للوقت ، ورغم سوداوية المشهد فان الحل الوحيد والذي قد يعطي شعبنا أملا تدريجيا جديدا للخروج من الازمة وترميم الحطام يتمثل بالموافقة الفورية على تشكيل حكومة وحدة وطنية قد لا يعول الكثير على نتاج عملها ، نظرا لتعقيدات المشهد، الا ان مجرد الموافقة على تشكيلها قد تضعنا من جديد في الاتجاه الصحيح وعلى الدرجة الأولى من ذاك السلم الطويل، وأن تبادر الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركتي فتح وحماس بالمطالبة بإعادة إحياء الورقة السويسرية التي حظيت بمباركة دولية شاملة والتي قد تشكل حلا لأزمة الموظفين التي قد تكون المدخل السليم لتفكيك الازمة ، وعلى الاقل دعونا نواجه ازماتنا متحدين افضل الف مرة من مواجهتها ونحن منقسمين .
gazapress2@gmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية