أن تسير في شوارع غزة ليلاً، فهذا يعني أنك ستكتشف عريّ المدينة التي تحاول أن تستر عورتها رغم الأسمال البالية الممزقة التي يلبسها أبناؤها المتناثرين تحت الدمار.

أن تمشي ليلاً في شوارع غزة المعتمة يمنحك لمحة عن واقعها الجديد بعد أن لعقت التراب بفعل حصار ذوي القربى، وبسبب الحروب المتلاحقة التي أنهكت قواها، حتى قسمت ظهر أولادها التائهين. ففي غزة لا وجه للضياء، ولا طعم للحياة. فالكهرباء تشكل جزء من أزمة كبيرة، حيث لا ماء في البيوت رغم المطر، ولا غاز طهي بسبب حصار مطبق لا يرحم. وبيوت تنام باكراً خوفاً من شمعة لا شاعرية فيها أخذت بالمئات من الأرواح نحو حتفها. والناس في قطاعها يعيشون بين الخوف والرجاء أملاً أن يظهر المخلص الذي يمنحهم صك الغفران ويتجاوز عما فعله بها الزمان، وأن يلم الشمل ويعمل على رأب الصدع ويحقق المصالحة بين إخوة لا يعرفون أن هناك عدو يتربص بهم ليل نهار.

قطاع غزة لم يعد مجرد 345 متر مربع، وإنما سجن يضيق بأهله، فللمعابر حكاية، والناس لا يعرفون معنى أن تكون بلدك بلا ميناء أو مطار، وأن تكون مرهوناً بمعبر هنا لعدو وهناك لعبد بين يدي عدو. أن تظل محاصراً حتى تضيق بك الدنيا ليخرج أحد أبناء مدينتك عارياً على تخوم بلد شقيق لعله يحظى بفرصة اعتقال من جيرانه فيخبرهم بمرضه، فلعلهم –أو هكذا اعتقد ذلك الشاب الغزي المسكين- أنهم قد يمنحونه فرصة العلاج في بلادهم العربية التي تدعي أنها أم الدنيا وهي مجرد زوجة أب قاسية لا ترحم. لكنهم قنصوه، تناوشوا عليه وقتلوه، ولو كان يهودياً ما فعلوا ولاستقبلوه استقبال الفاتحين كما يحدث في معبر طابا.

في غزة أناس فقدت أطرافها ودفنتها بعد أن صلت عليها بأربع تكبيرات، وتمكث في صقيع الخيمة لأن الطيران الحربي الصهيوني دمر البيت وشتت شمل الأسرة. ورغم كل الأمنيات بعد انتهاء الحروب والوجع ظل الحصار يخنق الناس ويقتل ما تبقى في جعبتهم من أمل، يقتل غزة ما يفعله أشقائها حين يمنحون جسدها لذلك العدو بلا مقابل، بل وربما يموّلون حروبه عليها ويتلذذون بدم أطفالها، لأن النفس الذي يخرج من أفواههم مقاوم ويرفض الذل والخنوع في زمن يحكمه المطأطئين الذين يؤدون ولاء الطاعة للاستعمار. 

في غزة شبان لا يهتدون إلى عمل، يسيرون في الطرقات بحثاً عن أي وظيفة أو مهنة حتى أنهم مستعدون للعمل كحراس للعمارات السكنية رغم شهادات البكالوريوس والماجستير التي يحملونها في الهندسة وتخصصات أخرى، وحين يفشلون يجلسون في بيوتهم بين النوم والموت، تماماً كإخوتهم الذين لا يملكون ثمن رسوم الجامعة، ولأن كل شيء مفقود وغير موجود، حتى مهنة الأنفاق القاسية تم تدميرها ولم يعد هناك إلا الهواء كي يمنعونه عن غزة من كل الجهات.

غزة تئن تحت وقع البطالة والفقر. ولم يعد للرجل سوى أن يستر عورة بيته بالفتات، حتى المئونة التي تقدمها وكالة الغوث تقلصت بشكل هائل، عدا عن أزمة الرواتب الخانقة والدمار وندرة البيوت التي من الممكن أن يتم استئجارها.

غزة أزمات لا تتوقف لن تنتهي إلا حين تسلم رايتها، ولن تفعل.

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد