في فيلمه «جسر الجواسيس» والذي لعب فيه الممثل الأميركي توم هانكس دور المحامي الذي يدافع عن جاسوس لصالح روسيا وسط استنكار لدفاعه سأل هانكس أحدهم : من أي أصل أنت؟ قال: من أصل ألماني وأنت؟ أنا من أصل إيرلندي، سأل هانكس أحدهم: ما الذي يجعلنا أميركيين؟ ثم أجاب إنه القانون ...، ربما تلك مثلت واحدة من أخطر أزمات الدول العربية التي لم تستطع بناء أوطان تستوعب الجميع فتمزقت شظايا فلا ثقافة قانون ولا احترام للقانون .
انتهت وحدة «لاهاف» الإسرائيلية المتخصصة في قضايا النصب والاحتيال من الجولة الأولى من التحقيق مع سارة نتنياهو زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي والتي استمرت حتى منتصف الليل لمدة سبع ساعات لم يستطع نتنياهو وبكل الصلاحيات المخولة له حتى من تأجيل التحقيق ليحتفل برأس السنة، وتركز التحقيق حول ما يعرف بمصروفات بيت رئيس الحكومة حيث الاشتباه بتحويل موازنات وصيانة لمنزلهم الخاص في قيسارية من موازنة منزل رئيس الحكومة في القدس وأيضا للاشتباه بتقديم خدمات لوالدها من موازنة منزل رئيس الحكومة .
المحكمة الإسرائيلية حكمت على رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت بالسجن الفعلي لمدة عام ونصف سيبدأ تنفيذ الحكم منتصف شهر شباط القادم بتهمة  تلقي رشوة بـ 60 ألف شيكل وهي ما يقارب راتب شهر لرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بعد أن أسقطت عنه القضية المعروفة بـ «هولي لاند» التي اشتبه بتلقيه رشوة بنصف مليون شيكل، لم يفكر أحد بالقضية أبعد من بعدها الجنائي، لم يتهم أي من السياسيين أو الصحافيين رئيس الوزراء الحالي بأنه كان خلف الحكم لأسباب سياسية أو أنه أرسل منافسه للسجن لأسباب كيدية كما يحدث في كل الدول العربية ...لأن هناك قانونا.
سلسلة من الفضائح عصفت بالنظام السياسي الإسرائيلي كان الشهر الأخير حافلا بها من زوجة رئيس الوزراء وحبس رئيس وزراء آخر وقضية عضو الكنيست ينون ميجال من حزب البيت اليهودي الذي قدم استقالته بعد كشف اتهامه بتحرش جنسي بإحدى زميلاته عندما كان رئيسا لتحرير موقع واللا الإخباري عندما كشفت على صفحتها عن الألفاظ الخادشة للحياء التي قالها ميجال.
      أما نائب رئيس الوزراء سيلفان شالوم والذي تسببت سلسلة من الشكاوى بمغادرته الحياة السياسية بعد تقديم عدد من النساء شكاوى ضده بالتحرش الجنسي فانتهى كما انتهى قبله كثيرون في إسرائيل، وحدة التحقيق في النصب والاحتيال التي استدعت زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي المعروف عنها تدخلها في الجهاز السياسي في إسرائيل وفي القرارات المصيرية أبلغت سارة بأن الأقوال التي ستدلي بها قد تستخدم ضدها في حال تقديم لائحة اتهام، وهذه ممكنة في حال تم الضغط عليها وثبوت الاتهام، وقد يتوسع التحقيق في قضية هدايا رئيس الوزراء والتي كانت تخفيها سارة لدى أحد أصدقاء في مخزن بعيدا عن الأعين بشكل مخالف للقانون الذي يضع سقفا ماليا للهدية التي يتلقاها رئيس الوزراء اذا ما تجاوزته يجب تسليمها للدولة.
وفي التحقيق مع عضو الكنيست المستقيل بعد الفضيحة ميجال أبلغته الشرطة أيضا بأن ما سيقوله سيستخدم ضده في حال تقديم لائحة اتهام، فلوائح الاتهام التي جرت رئيس وزراء سابق للسجن يبدو أنها ستجر في الفترة القادمة أعضاء الكنيست وربما أيضا زوجة رئيس الوزراء، وهذا يحتاج إلى قراءة أخرى للجانب الإسرائيلي للبحث عن عوامل قوته، فقد درجت العادة في الفكر السياسي الفلسطيني على القول بأن إسرائيل تتفوق عسكريا على الفلسطينيين وكذلك العرب، وبالتالي يجب الإعداد عسكريا فقط لمواجهة إسرائيل.
إنه القانون وجهاز القضاء المستقل.. المستقل في إطار الدولة لكنه ليس كذلك عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، وتلك قصة أخرى لكن الحديث هنا عن كيف يعمل جهاز القضاء دون سطوة الحكومة وأجهزة الأمن .. وكيف يحققون مع زوجة رئيس الوزراء دون خوف .. وكيف يتسلم شرطي صغير تهمة ضد عضو كنيست أو قائد جهاز أمن دون خوف أو خشية، فقط لأنه يقوم بدوره في إطار القانون وتحت حمايته.
لم تكن إسرائيل لتتمكن من بناء دولة بهذه القوة التي تخيف العرب بدون القانون الذي جعل الناس يعملون بعيدا السرقة والفساد والواسطة والمحسوبية وكل تلك الصفات التي ترافق السياسة العربية بل تشكل جزءا من يومياتها في ظل غياب القانون، ولأن القانون في العالم العربي هو أحد عوامل قوة السلطة ضد المواطن يستطيع الحاكم إرسال كل خصومه للسجون والتصرف بأموال الدولة دون حسيب أو رقيب وتعيين من يريد دون حسيب أو رقيب .. فقد انكشف خلال تغيرات الإقليم كيف كانت زوجات بعض الرؤساء الذين تمت الإطاحة بهم يتحكمن بالدولة ويتصرفن بأموال الشعب في ظل مباركة وتأييد رجال القانون والرقابة.
والأسوأ أن رجال القانون في المنطقة العربية الذي يفترض انهم حراس النصوص هم انفسهم من يفسرون القانون لتجاوزه يلوون القوانين لصالح الحاكم أو الحزب الحاكم، هم في خدمة رجل السلطة ورجل الحزب ورجل الأمن ورجل النفوذ، أما المواطن المغلوب على  أمره فكأن القانون وضع لمحاصرته ومحاسبته فقط، بينما وضعت القوانين أصلا للحد من نفوذ السلطة ولحماية المواطن ولجعل الناس سواسية أمامه.
      لدينا مؤسسات انتهى عمرها الانتخابي منذ ست سنوات، وهناك تبرير لذلك، والغريب أننا نسمعه من رجال القانون، هذا الاستهتار بالمواطن والمس بصلاحياته وسيادته يجد من يفسره قانونيا استنادا لنص يقول بأن المجلس التشريعي يسلم للمجلس المنتخب، بينما أن نص القانون يجزم بمدة الولاية لأربع سنوات، وهنا الأزمة فإذا كان نص السنوات الأربع لتحديد العلاقة بين المجلس والشعب فإن نص التسليم والتسلم هو نص يتعلق بالبروتوكول فقط بين السلطة والسلطة، لذا فقط تم الاستناد لنص شكلي بروتوكولي على حساب نص شبه مقدس لولاية المجلس ومدة الانتخاب ... أنه الاستخفاف بالشعب وبالقانون وجريمة يرتكبها رجال القانون الذين وضعوا أنفسهم والقانون في خدمة رجال السلطة.
الولايات المتحدة أصبحت دولة قوية ومجتمعا حقيقيا رغم أن عمرها الأصغر مقارنة بالمجتمعات العربية، وإسرائيل التي لا يزيد عمرها على سبعة عقود أصبحت دولة قوية لأن القانون في تلك الدولتين كان سيد الاحكام والرقيب على أداء السلطات، فكان أداؤها أداء دولة فيما ظل العرب يمارسون الحكم بمنطق العشيرة وبقانون العشيرة الذي ساد ليجدوا أنفسهم لم يبنوا أكثر من دولة العشيرة التي طارت مع أول هبة ريح ويجري فيها الصراعات على أسس مذهبية وطائفية بعيدا عن روح الدولة.
حاول اليهود الترويج أن العقل اليهودي مميز ومتفوق وهي نظرية عنصرية لم تجد من يصدقها سوى بعض اليهود، لأن التاريخ أنتج عباقرة من العرب والآسيويين والأوروبيين، لكن الفرق أن إسرائيل والدول الأوروبية والولايات المتحدة استخدموا عبقرية الفرد في إطار المؤسسة وتحت حماية القانون، فيما نحن العرب لدينا عبقريات فردية خارج المؤسسات، بل وربما استخدم القانون ضدها بهدف إبعادها .. إنه القانون يا سادة كما قال توم هانكس .. وإنه غياب القانون لدينا، فالقوة العسكرية هي نتاج عدة عوامل وإلا لكانت أموال العرب قد صنعت منهم أعتى الدول عسكريا وحققت اهم الانتصارات ..!
Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد