قُيِّضَ لي أن أشارك في الوفد الإعلامي الفلسطيني لاحتفالات ناميبيا باستقلالها، وهو أمر نادر أن تُدعى مجلة «الهدف» لمثل هذه المشاركة، إذ كانت ـ وأعتقد أنها لا تزال ـ المشاركة تتم عَبر منظمة التحرير وإعلام حركة فتح تحديداً، انتقلت من دمشق إلى تونس ومنها إلى ناميبيا عَبر عواصم أوروبية عديدة، في الاحتفال، كان العالم كله في «وايندهوك» عاصمة البلاد، بعض قادة العالم، شاركوا لتذكير الناميبيين أنهم لم يتخلوا عنهم وأن جهودهم أثمرت هذا الاستقلال، والبعض الآخر من قادة العالم، جاؤوا، ليس فقط للتهنئة ولكن للتعلم من تجربة كفاح الشعب الناميبي حتى نال الاستقلال، رأس هؤلاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي بالفعل، ورغم حضور القادة العظام، كان «نجم» هذا الاحتفال، وشاركه في هذا السطوع، نيلسون مانديلا، الذي كان قد أفرج عنه قبل شهور قليلة.
حضور الرئيس عرفات على رأس الوفد الفلسطيني لهذا الاحتفال، لم يكن وبالتأكيد لمجرد التهنئة والوقوف إلى جانب الشعب الناميبي فحسب، لكن الأهم، أن هناك تقاطعات ذات أهمية بين القضيتين، الفلسطينية والناميبية، فهذه الأخيرة، خضعت للاحتلال الألماني، ثم الجنوب إفريقي، هذه الأخيرة كانت تعتبرها جزءاً لا يتجزأ منها، ورغم صدور أربعة قرارات من مجلس الأمن تدعم استقلال ناميبيا إلى أن جنوب أفريقيا لم تمتثل لأي قرار من هذه القرارات، الشعب الناميبي اضطر إلى إعلان الكفاح المسلح في وجه احتلال جنوب أفريقيا، كما أن دولة ناميبيا، بعد الاستقلال، باتت آخر مستعمرة تنال استقلالها في أفريقيا ـ ربما باستثناء الصحراء الغربية ـ البوليساريو ـ وهي، ناميبيا بهذا التوصيف، باتت الأكثر تشابهاً مع القضية الفلسطينية، خاصة وأن «التوأم» العنصري، جنوب أفريقيا الدولة المحتلة لناميبيا، وإسرائيل الدولة المحتلة لفلسطين، كان تشابهاً إضافياً على طبيعة «التوأم» الفلسطيني ـ الناميبي.
من هنا كان الحضور الطاغي لفلسطين برئاسة ياسر عرفات لاحتفالات ناميبيا، في 21 آذار 1991، وهو ذكرى يوم الكرامة فلسطينياً، علامة ذات أبعاد سياسية بالغة الأهمية، لتذكير العالم، بأن الشعب الفلسطيني، ما زال يقاوم الاحتلال العنصري الإسرائيلي، تماماً كما ناضل الشعب الناميبي الاحتلال العنصري من قبل جنوب أفريقيا.
وعلى الرغم من أن هذا التشابه بين الحالتين، فاستقلال ناميبيا تم إثر صفقة دولية، بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة مع نهاية الحرب الباردة، مقابل خروج القوات الكوبية من أنغولا، وثمة فرق آخر، إذ أن الكفاح المسلح الناميبي، انطلق بشكل متأخّر، بعد صدور عدة قرارات من مجلس الأمن لصالح استقلال ناميبيا من دون أن تستجيب جنوب أفريقيا، عندها فقط لجأ الشعب الناميبي إلى خيار الكفاح المسلح، الأمر بالنسبة إلى القضية الفلسطينية مختلف تماماً، إذ اعتمد الشعب الفلسطيني الكفاح المسلح، كوسيلة للوصول إلى هدف التحرير والاستقلال، إلى أن فرض نفسه على الخارطة السياسية، الأمر الذي أدى تالياً، إلى أن تتخذ المنظمة الدولية قرارات هامة استجابة لنضاله الوطني، وهو عكس ما تم في المسألة الناميبية من حيث الأولويات والانعكاسات.
وبالعودة إلى خصائص المسألة الناميبية، تبين أن مجمل العلاقات الدولية وتأثيراتها الإقليمية، هي التي أدت إلى التوصل إلى صفقة تستجيب لنضالات وكفاح الشعب الناميبي، رغم أن تلك الصفقة قد تمت في وضع كان الاتحاد السوفياتي في النزع الأخير، الأمر الذي يشير ـ من دون شك ـ إلى ضرورة عدم تجاهل الأبعاد الإقليمية والدولية فيما يتعلق بمستقبل أي حركة تحرر، وضرورة الاستفادة من التفاعلات الإقليمية والدولية من ناحية، ومن وجود حاضنة لنضال الشعب من أجل استثمار العملية الكفاحية المسلحة، ومن أجل دعم أية مساومة أو صفقة، أو مفاوضات على أساس التمسك بالثوابت الوطنية.
استذكر حفل استقلال ناميبيا، مع احتفالات شعبنا الفلسطيني بذكرى انطلاق ثورته، ولما كانت ناميبيا، كما توصف مع جنوب أفريقيا، بأنها «قاع العالم» بالنظر إلى حدودها التي تقترب من المحيط المتجمد الجنوبي كأقرب نقطة من «الأرض»، فقد حدث أنني كنت أنتظر ليلاً باص الفندق، ليقلني من وسط المدينة، إلى الفندق على أطرافها حيث كنا ننزل، وكنت وحيداً، توقفت سيارة جيب عليها إشارة الأمم المتحدة، قال لي جندي من ذوي القبعات الزرق : ماذا تنتظر؟ ، فقلت باص الفندق، فقال: إن الوقت متأخر وليس هناك من باصٍ في هذا الوقت، وسألني: هل أنت فلسطيني، فأجبت: بنعم، وبالتأكيد كان تساؤله يستند إلى الحطّة الفلسطينية التي كنت أرتديها، دعاني لركوب الجيب عارضاً عليّ توصيلي، في الطريق، تحدث هذا الجندي معي بالعربية، هو فلسطيني حصل مع عائلته على الجنسية اللبنانية، ونزحوا إلى البرازيل، حيث انضمّ إلى القوات المسلحة، وقدم إلى ناميبيا مع قوات الأمم المتحدة للإشراف على الاستفتاء الشعبي، تحدث بانفعال عن رؤيته عن بعد للرئيس عرفات في منصة الضيوف أثناء الاحتفال، وباختصار شديد، عرض عليّ أن يوصلني في اليوم التالي إلى المطار، وافقت، حضر إلى الفندق، وأوصلني بالفعل إلى المطار، وودّعني دامعاً، ركب سيارة الجيب، ضاغطاً على البنزين بسرعة وهو يغادر، مشيراً بعلامة النصر من النافذة قائلاً.. أنا فتحاوي!!
Hanihabib272@hotmail.com

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد