على الرغم من أن هذا العنوان يبدو مثيراً وذلك لكون الكثيرين ما زالوا يعتبرون أنه من المبكر للغاية التحدث حول مرحلة ما بعد «داعش» إلاّ أن هذه المرحلة هي في الواقع أصبحت على الأبواب.
ففي العراق وسورية على حد سواء فقد «داعش» بالكامل قدرته على الإمساك بمناطق «آمنة»، وتحوّل قتال «داعش» في الواقع إلى عمليات كرّ وفرّ أقرب إلى النزوح والتنقّل بين مناطق رخوة ومن غير الممكن الاستقرار عليها.
أغلب الظن أن معركة الرمادي ستحسم في غضون أسابيع قليلة ما سي فتح الباب واسعاً لمعركة الموصل.
لم تعد تركيا قادرة على تأمين الملاذ المطلوب والحركة الضرورية لـ»داعش» والتدخل الروسي أحدث تحولات هائلة في الواقع العسكري في سورية ما أدى إلى سقوط مفهوم المنطقة الآمنة على الحدود التركية السورية وأدى موضوعياً إلى تحويل التواجد المكثف لـ»داعش» في الرقة وبعض المناطق في الشمال السوري إلى أهداف محصورة ومباشرة للقصف الجوي المباشر لكامل البنية اللوجستية لـ»داعش» بل واصبح بالإمكان إجبار «داعش» على الاستمرار في حركة تنقل في دائرة محاصرة بالنار.
والأهم على هذا الصعيد على ما يبدو أن مخزون المقاتلين الأجانب بدأ يجف على الرغم من تواجد أكثر من ثلاثين ألف مقاتل أجنبي في سورية لوحدها قدموا عبر الأراضي التركية من ست وثمانين دولة غالبيتها العظمى أوروبية. هؤلاء الأجانب بالذات أصبحوا أمام معركة «انتحارية» إذا لم يتم إبرام صفقة تسليمهم إلى البلدان التي أتوا منها ومحاكمتهم فيها.
بالمعنى العسكري ليست المعركة ضد «داعش» سهلة بل ستكون شرسة ومكلفة وستجبر «داعش» كل التحالفات المضادة لها على خوض معارك برية طاحنة قبل أن تحسم المعارك على الصعيد العسكري خصوصاً وأن كل الدلائل والتقارير التي هي بحوزة أجهزة الاستخبارات العالمية الكبرى تؤكد  «صلابة» مقاتلي «داعش» وتأهيلهم العالي للقتال. أما بالمعنى السياسي فإن مرحلة ما بعد «داعش» هي بالتأكيد مرحلة فاصلة وفارقة ومصيرية بالنسبة لكامل الإقليم العربي وبالنسبة لمستقبل العالم العربي.
استطاعت قوى الإرهاب الإسلاموي بما فيها «داعش» وفي أكثر صورة متوحشة من هذا الإرهاب أن تنخر في جسد المجتمعات العربية واستطاعت هذه القوى أن تفرض على مدى عدة سنوات أجندتها على الواقع السوري والعراقي والليبي واليمني إلى حد ما عبر محاولة إعادة الهندسة الاجتماعية لهذه البلدان وفق منظور الدين والطائفة والعرق. وقد نجحت في استباحة ثوابت العلاقات الوطنية التاريخية المتراكمة بما في ذلك محاولة تدمير أسس ومقومات الدولة الوطنية ولهذا فإن أية تسويات لمرحلة ما بعد «داعش» بما في ذلك الانتقالية منها (والحديث هنا يدور بحيوية عن مراحل انتقالية كثيرة في المنطقة) إذا لم تنطلق من التأكيد والعمل على الدولة الوطنية الديمقراطية المدنية الحديثة فإننا سنكون أمام مرحلة هي أقرب إلى استراحة المحارب استعداداً للحرب القادمة.
كل ما يجري الإعداد له مع الأسف في كل من سورية والعراق وإلى حد ما في ليبيا واليمن هو محاولة لقطع الطريق على تحول ديمقراطي حقيقي يقوم على أساس الدولة المدنية وحقوق المواطنة.
حجم التدخل الإقليمي والعربي والدولي في صياغة مرحلة ما بعد «داعش» حجم هائل وهو أكبر بكثير من قدرة القوى الوطنية والديمقراطية في هذه البلدان على الصمود وصياغة المشروع الديمقراطي النابع من المصالح الوطنية العليا لشعوب المنطقة.
والمشكلة الكبرى على هذا الصعيد هي محاولة تغييب الدور المصري والتونسي وكذلك الدور للبلدان العربية الأخرى لإحداث نوع من التوازن مع الحجم الهائل للدور التركي والإيراني والروسي والغربي.
لا تمتلك القوى الوطنية والديمقراطية في هذه البلدان فرصة غير وثيقة الدستور حالياً وهي إن تخلت تحت أي ظرف أو ضغط عن دستور ديمقراطي علماني (من حيث الجوهر) فإنها تكون قد حكمت على نفسها بالموت وتكون قد سلمت وأسلمت الراية لأجيال جديدة من الإسلامويين الذين لن يختلف موقعهم وموقفهم وسياساتهم من أسلافهم سوى ببعض الشكليات الجانبية.
بطبيعة الحال لا يمكن لكل الحالات الانتقالية أن تحل كل المشكلات دفعة واحدة، ولا يوجد أحلام ولا أوهام هنا لكن سلاح الدستور هو السلاح الأقوى والأهم في هذا الإطار وفي هذه المعركة.
الولايات المتحدة تريد أن تكون هناك دولة مدنية من حيث الشكل لكن بثقل مرجح للإسلام السياسي الذي تسميه معارضة معتدلة والغرب عموماً ما زال يراوح في هذه المساحة بالذات. أما العرب فليس في واردهم اليوم إقامة الدولة الوطنية والديمقراطية لا في سورية ولا في العراق ولا في أي مكان وغياب مصر أو عدم المشاركة المصرية الفاعلة في هذه المعادلة وكذلك البلدان العربية الأخرى سيجعل مما يسمى بالمراحل الانتقالية مراحل لإغلاق الطرق والمداخل على الدولة المدنية الحديثة ومصالح وتحالفات الولايات المتحدة والغرب مع الإسلام السياسي (المعتدل) سيجعل من هذا التوجه مجرد شعارات مفرغة من مضمونها ولهذا فإن مرحلة ما بعد «داعش» هي نصف «داعشية» والمعركة طويلة وقاسية ولكنها في النهاية معركة إجبارية ومصيرية قبل حلول عهد الدولة المدنية العربية الحديثة.
أما المعركة بعد قيام الدولة المدنية الحديثة فهي معركة الثقافة والفكر، معركة التنوير ومحاربة الجهل والتجهيل والتكفير وهي مرحلة طويلة قائمة بحد ذاتها وفي ضوئها سنحكم إن كان العالم العربي في ذلك الوقت يكون قد دخل فعلاً في الحقبة التاريخية الجديدة، حقبة الديمقراطية وحقبة الدخول الحقيقي للمستقبل.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد