يستمرّ نتنياهو في التلاعب بالجميع، داخلياً، ينفّذ بعض مواقف سموتريتش وبن غفير، وفي الوقت ذاته يعطي أملاً كاذباً، لمن يرغبون في «مجلس حربه»، بإنجاز صفقة تبادل والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين.
هو يقدّم لأهالي الأسرى الغاضبين، وعوداً كاذبة، اختبروها لأشهر طويلة، خلاصتها تفيد بأنّه لا يأبه بالأسرى، حتى لو استعاد جثثهم بينما يتحدّث عن عزمه على الإفراج عنهم بالقوّة.
وعلى المستوى الخارجي يتلاعب نتنياهو بالإدارة الأميركية، وبالوسطاء، أيضاً، حيث يوافق على المبادرة المصرية الأخيرة، التي حظيت بموافقة وليام بيرنز، رئيس المخابرات الأميركية، وحين توافق عليها المقاومة الفلسطينية، يرفضها ويسجّل عليها نقاطاً عديدة، ويرسل وفداً متوسط المستوى بصلاحيات محدودة بعد ممانعة، فيلحق به الأميركي، الذي يعود ليحمّل مسؤولية التعطيل للمقاومة، ويمارس عليها ضغوطاً شتّى.
يقول نتنياهو، إنّه سيسمح بتدفُّق البضائع ومواد الإغاثة للقطاع تحت ضغط الطلب الأميركي، ثم يُقفل المعابر أمام دخول الشاحنات لبضعة أيام.
يفرض على الكلّ، البدء باجتياح برّي، يبدأ من شرق رفح، ويقول، إنه «عملية محدودة»، هدفها الضغط على المقاومة، ثم تصل دبّاباته إلى «محور فيلادلفيا»، وتحتلّ معبر رفح البرّي.
يدّعي أنّ الوصول إلى «محور فيلادلفيا»، واحتلال معبر رفح هدفه منع وصول الأموال وتهريب السلاح، وكأنّ المعبر لا يخضع لرقابة مشدّدة لا تسمح بدخول حتى الحشرات، وتلحق به الإدارة الأميركية، وتمنحه عملية التغطية، وتعتقد، أيضاً، أنّها ستشكّل ضغطاً مثمراً على المقاومة تُرغمها على تقديم تنازلات، بحيث تُلبّي اشتراطات دولة الاحتلال.
تتمرّس إسرائيل على جملة من الشروط لكن أهمّها أنّها ترفض أي صيغة تشير إلى إمكانية وقف الحرب الإجرامية. وهي في المقابل التي تتمسّك بها المقاومة، بالإضافة إلى الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال الإسرائيلي من القطاع.
عند هذه النقطة الخلافية الأساسية، ينبغي على كلّ من يهمّه الأمر عربياً كان أم فلسطينياً، أن يفكّر مليّاً، بالأبعاد الحقيقية لهذه الحرب الدموية، والأهداف التي تقف خلفها من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل باعتبارهما طرفاً واحداً مع اختلافات محدودة، وأيضاً من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية حين قامت بمباغتة قوات جيش الاحتلال في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر العام المنصرم.
الولايات المتحدة ابتداءً، وقفت ولا تزال تقف خلف الأهداف الإستراتيجية التي أعلنتها إسرائيل في الأيّام الأولى لحرب الإبادة الجماعية والتجويع، وعنوانها تصفية القضية الفلسطينية عَبر عمليات التهجير إلى سيناء المصرية والأردن، وإعادة هيكلة الشرق الأوسط. الهيكلة تعني تعميق الانقسامات في المنطقة، وإنشاء «حلف سنّي» تكون إسرائيل جزءاً أصيلاً منه، وإدماجها في النظام الإقليمي عَبر عمليات «تطبيع» تبدأ بالمملكة العربية السعودية، وتلحقها دول عربية، وإسلامية أخرى.
إسرائيل شنّت الحرب وما زالت تشنُّها، بكلّ ما أوتيت من قوّة لتحقيق ذات الهدفين، عَبر التنسيق الكامل مع الولايات المتحدة، وفي البداية بدعمٍ من الدول الأوروبية الأساسية.
المسألة إذاً بالنسبة لـنتنياهو ليست فقط حماية رأسه ومستقبله السياسي، فإن كان الأمر كذلك، فإنّ الحرب ستنتهي يوماً ما، وبالتالي فإنّ ما يفعله عَبر استمرارها، قد يمنحه وقتاً أطول، ولكن نهايته معروفة.
هو يخوض مع ائتلافه الفاشي العنصري الحكومي، وبدعم وموافقة «المعارضة»، ما يعتبرونه «حرب الاستقلال الثانية»، حيث يعتقد هؤلاء أنّ بقاء دولة الاحتلال على المحكّ، وأنّ ما يخرج عن درب مواصلة الحرب الإجرامية، سيتهم بالخيانة العظمى.
الفشل الكبير الذي لحق بشركاء الحرب الداخليين والخارجيين وردود الفعل الدولية الواسعة، أدّت إلى تراجع بعض الشركاء تحت ضغط الرأي العام، ولكن هؤلاء يعانون من ازدواجية حيث يواصلون إمداد إسرائيل بالذخائر، وخطابهم السياسي والإعلامي يتحدث عن وقف الحرب، وتجنّب إلحاق الأذى بالمدنيين وإدخال المواد الإغاثية.
امتدت الحرب، بغير ما توقّعته الأطراف التي شنّتها، دون أن تحقق أيّاً من أهدافها، وأصبحت أهدافها الأولى مجرّد فضيحة، وضعت الكثير من الأطراف في حرجٍ شديد، حتى تخلّى الكلّ عن تهجير الفلسطينيين واستبدله بالهجرة الطوعية، مع مواصلة العمل على هدف نزع أسنان وأظافر المقاومة، وضمان أمن دولة الاحتلال، عَبر ترتيبات إدارية لا تسمح باستمرار سيطرة أو نفوذ حركة حماس في القطاع.
واضح أنّ الإدارة الأميركية تركّز على هدف الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين وتدفّق المساعدات التموينية والطبّية، لتوفير بعض الوقت من أجل إنجاز «صفقة التطبيع» مع السعودية، باعتبارها الورقة الوحيدة التي يمكن أن يقدّمها جو بايدن كإنجاز كبير يعزّز فرصه في السباق الرئاسي.
ولكن بعد أن يتمّ ذلك، إن حصل وتمّ، فإنّ الإدارة الأميركية لن تمارس أيّ مستوى مجدٍ من الضغط على نتنياهو من أجل وقف العدوان على القطاع.
لقد أثبتت الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولاءها المطلق لإسرائيل، وعودتها عن وعودها، وأنّها تفتقد إلى المصداقية حين تتحدث عن «رؤية الدولتين» بعد أن رفضت الوفاء بوعود أقلّ أهمية من ذلك.
ترفض الإدارة الأميركية حصول فلسطين على مقعد كامل العضوية في الأمم المتحدة، مع أنّ ذلك لا يرقى إلى مستوى الاعتراف بدولة فلسطين أو أنّها تشكّل خطوةً جادّةً وفعلية على طريق فرض «حلّ الدولتين»، ولكنها تعرف أنّ إسرائيل ترفض كلياً ومبدئياً أيّ طريق يؤدّي إلى «حل الدولتين»، ما سيشكّل للإدارات الأميركية الذريعة للتملُّص من هذا الحل.
إذا كان الأمر كذلك، فإنّ ثمة مشكلة بالنسبة للطرف الفلسطيني، الذي يُتابع مجريات الحرب الهمجية، وفق مناظير مختلفة ومتعاكسة، ما يُضعف الطرف الفلسطيني من ناحية ويشكّل غطاءً للمواقف العربية المتخاذلة، التي يقول لسان حالها، لن نكون ملكيّين أكثر من الملك.
حين تمّ توقيع «اتفاقية أوسلو»، أصرّ الإسرائيليون على هدف «غزّة أولاً»، وأصرّ الراحل أبو عمّار على « غزة ــ أريحا» والمغزى مفهوم.. لكنّ إسرائيل أطاحت بغزّة وأريحا والطريق الذي يؤدّي إليهما.
والآن في مرحلة قرار الحسم الإسرائيلي للصراع، يطرح نتنياهو و»مجلس حربه»، «غزّة أوّلاً»، ثم سيُلحق بها الضفة الغربية، ثم الوجود الفلسطيني في «الداخل».
حينذاك لن ينفع الندم، ولن يفيد القول: «أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض»، وسيكون كلّ شيءٍ في ذمّة التاريخ.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية