واحدة من أبرز سمات الإرهاب الجديد أنه بلا مركز. بلا بؤرة أساسية، فهو متعولم أيضاً، يجوب العالم يبحث عن أفضل الطرق لتنظيم عملياته وتوجيه ضرباته، مثل التاجر الذي يبحث عن أفضل سلعة بأفضل سعر. اكتسب الإرهاب الجديد من عالمه المعاصر واستفاد من المزايا التي توفرها العولمة. وكما لا يمكن ضبط حركة رأس المال بات من الصعب ضبط حركة الإرهاب.

فالمجموعات الإرهابية مثل الشركات العابرة للقارات تلتقي في الفضاء الافتراضي، وتتشكل خلاياها عبر وسائط التواصل، وتأخذ شكلها التنظيمي من هذا العالم، وخلاله تتشكل الأوامر ويتم إرسالها واستقبالها وتنفيذها دون الحاجة لوجود فعلي وحقيقي للتنظيم الإرهابي. وتأسيساً على ذلك فإن التنظيم قد يكون افتراضياً أيضاً ويكون من الصعب فك طلاسم رسائله ولا القبض على تشكيله وتفكيكه. وهو ليس بلا مركز بمعني أنه فعلاً قد لا يكون موجوداً بالشكل الحقيقي. فالعالم تنتسب لفكرة ما من خلال التواصل الافتراضي معها.
وما يحدث في الإرهاب الجديد أن أعضاء المنظمات الإرهابية ليس بالضرورة أن يكون أعضاء فعليين في التنظيم الكبير. الكثير من الشباب في اوروبا تحديداً تغريهم فكرة الجهاد المقدس من اجل العالم الآخر، ومن اجل الانتقام من الفساد والظلم الذين يسودان العالم، وبالتالي يتجهون بل يتبرعون بالالتحاق بالمنظمات الإرهابية. وبعضهم يتطوع لتنفيذ مهام مقدسة يعتبر القيام بها تقرباً إلى الله. ليس لأن هذا الفرد فشل في التأقلم من المجتمع الذي يعيش فيه، وليس لأنه يبحث فعلاً عن عالم أفضل، بل لأنه ضحية حدود وحواجز سقطت في العالم الافتراضي الذي يعيش فيه. فلم يعد هو مواطن في هذا العالم، بل صار ضحية له.
من هنا، فإن الدول تجد صعوبة في  التحكم بمدخلات التنظيمات الإرهابية. لا يمكن الإمساك بالكثير من تفاصيل العمل الإرهابي المنظم بطريقة تتماشي مع تطور العصر. يمكن تخيل قيام بعض الدول خاصة الولايات المتحدة بمراقبة كل الإيميلات وصفحات الفيس بوك وتيويتر وغيرهم من وساط التواصل الاجتماعي وصفحاته، لكن علينا تخيل كم يكون الامر مرهقاً حين ندرك كم مليار عملية إدخال تتم في الانترنت يومياً. وربما علينا أن نفغر أفواهنا ونحن نقرا عن آليات مراقبة الانترنت التي تتم يومياً وكيف يصار إلى فلترة كل شيء. لكننا عند مراقبة الواقع ومقارنة الأرقام المهولة حول مدخلات الانترنت فإن علينا أن نخلص إلى استنتاجين. الاول  يقول يبدو من المتعذر مراقبة كل شيء بالتفصيل اللازم. فحجم المدخلات يبدو مهولاً، وكل ما قد يقال عن الفلترة والتصنت ربما واستخدام الكلمات المفتاحية، ليس إلا محاولات للحد من أكبر قدر ممكن من الأخطاء والكوارث. علينا ان نتخيل ان الامر اكثر من مجرد مقاربة المدخلات بمقدرة اجهزة المراقبة على المتابعة والرصد والتحليل والملاحقة. بل وهذا ربما أهم بعمليات التكييف والتأقلم التي يمكن ان تمارسها المجموعات الإرهابية مع طرق المراقبة والمتابعة على الانترنت، بحيث سيبدو من المتعذر ملاحقة أعمالها ومتابعتها. بل في بعض الأحيان قد يبدو الامر مجرد رسائل عادية بين أشخاص عاديين.
الاستنتاج الآخر، يتعلق ليس بجودة عمليات المراقبة تلك، بل في مقدرة المخرجات على تحديد حجم التهديد الذي تشكله المدخلات. فمن جهة فإن مراقبة كل شيء تقود إلى بعثرة الجهد خاصة في ظل الحالة الهلامية التي تتمتع بها التنظيمات الإرهابية ومقدرتها على التشكل والتكون ومن ثم التفتت، مثلما يحدث الأمر في مجموعات الدردشة والصداقات التي تتكون على الانترنت. فطالما أن العالم كله افتراضي فيمكن الجزم بحالة الافتراضية التي يتم خلاها تفاعل المجموعات. وعليه فإن عمليات المراقبة نفسها تصبح جزءاً من حالة الافتراضية تلك، ويصير توقع مدى جودة نتائجها ليس إلا جزء آخر من اللعبة الافتراضية ذاتها. 
لم تعد الدولة الآيلة للسقوط او الدول الضعيفة هي الخطر الحقيقي على الأمن والسلم الكونيين. ورغم ان الكثير من الإرهاب الدولي المعاصر نجم عن ممارسات القوى الكبرى وجنوحها لتدمير بعض الدول التي لم تكن آيلة للسقوط مثل العراق، بل هي من أسقطتها مثلما حدث في اجتياح بغداد وتفكيك الجيش العراقي وتسريحه، فإن الدول وأجهزتها لم تعد هي الخطر الذي لا يزول. وسمة الإرهاب الجديد، طالما يتعذر الإمساك بشكله وتعريف حدوده لكونه يقع في النسيج الهائل للعالم الافتراضي، أنه من الصعب أن يزول. يمكن شن حرب على دولة ما وتدميرها واحتلالها، ويمكن ابتداع الحجج ممن اجل استصدار قرار أمي بذلك، لكن ما الذي يمكن فعله حين يتعلق الامر بمجموعات إرهابية غير موجودة بالشكل الهيكلي.
هل يمكن تخيل أن الكثير من المجموعات المساندة لداعش او تنظيم الدولة أو القاعدة حقاً لا ترتبط بأي رابط تنظيمي بالتنظيم الأم في الرقة أو غيرها، بل هي خلايا تتشكل محلياً في اماكن تواجد أعضائها على الانترنت، ويتم تحريكها ضمن الواقع الافتراضي لتشكلها. ومثل الخلايا السرطانية، لا نعرف بوجودها إلا بعد أن تتفشى في الجسم، وفي أغلب الاحيان حين يكون قد فات القطار.  
وعليه، فإن الإرهاب الجديد غير متوقع. ولا يمكن معرفة طريقة تصرفه. والآليات التي يجب على الدول اتباعها من أجل القضاء عليه يجب أن تجمع بين التثقيف المدني الحقيقي وبين نزع أسباب البحث عنه في ظل غياب العدل والتوازن في السياسة الدولية، واصطفاف العالم الحر خلف بعض القضايا وإمعانه في مساندة الظلم (مثلما هو الحال فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية) ودعم الاحتلال في مناطق أخرى. المؤكد أنه يجب البحث عن أفضل السبل من أجل الحد من فرص نمو الإرهاب وإشاعته على قاعدة أن العنف وغياب العدل وعدم تحقق التنمية وشيوع ثقافة القمع لا يخدم إلا التربة الخصبة لشيوع الأفكار المتطرفة ونمو الخلايا الإرهابية وتشكلها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد