تخطر ببالي نقاشات ساخنة دارت في الانتفاضة الثانية، عن البرنامج والآليات وأساليب النضال ضد الاحتلال، وأقارنها مع نقاشات راهنة يشحّ فيها النقاش المستفيض حول البرنامج الانتفاضي وأهداف الهبة وتنظيم الحراك الشبابي وممكنات وصوله لأهدافه، فما يطفو على سطح النقاش المجتمعي ينحصر في الظواهر السلبية في أبعاده المحلية، دون التقدم بالبدائل للمشكلات محل النقد. 
الكلّ يتربَّص بالكلّ، الحوار محفوف بالمخاطر والقوالب ويبدو من يبادر إلى إدارته كمن يُحَرِّك عشّ الدبابير. كما أنه لا مجال للاستعانة بنقاشات الانتفاضة الثانية التي اتسمت بتركيزها على أبعاد الصراع مع الاحتلال، كما تميزت بعمقها واتساع نطاق المشاركين بها، وكذلك قدرتها على إثارة النقاش المتضارب العناوين والأجندات، على الرغم من عدم وصوله الى أي مكان في الوقت والزمان المناسب، لكنه استطاع أن يوفِّر للحوار حاضنة وبيئة مجتمعية مواتية.
 بينما النقاشات الدائرة حالياً على السطح، تجري في اجتماعات ضيقة، ما يضيِّق مداها ومساحاتها ويسطِّح موضوعاتها، دون تجاهل غياب الشباب أصحاب الميادين عنها، وهم الذين نظروا إلى فعلهم من زاوية التضحية، فصُوِّرَت كأنها مجانية، وعوضاً عن مدّ الأيادي لتقويتها وتنظيمها واستعادة عافية وحيوية المقاومة، كشفت عن أزمات وعجز الحركة الوطنية وأمراضها.
الأساس في رسالة الهبّة، أن علينا أن نجتمع على فكرة عدم السماح للاحتلال العيش في هدوء، فالهدوء هو الحالة المفضلة للاحتلال، لاستكمال مشروعه الاستيطاني في ظل صمت وهدوء فلسطيني، دون التقليل من الحراك السياسي والديبلوماسي، لكنه لا يستطيع الكثير دون مقاومة ذات جدوى على الأرض. 
لقد حاول الشباب والشابات تلقين الحالة الفلسطينية الخائبة درسا إحراجياً عبر تقديم التضحيات الغالية، هذه رسالتهم الأساسية، و فتح النقاش حول الأولويات الفلسطينية وتناقضها مع المشهد الانقسامي، فوجدوا من يتهمهم باليأس والرغبة في الانتحار، وخرج لهم من يبحث عن دوافعهم وعن الأسباب الشخصية الكامنة خلف تضحياتهم العالية. 
بعض النقاشات الدائرة تبدو خارج الصحن الفلسطيني تماما، وكأنها تجرِّم الحراك والمقاومة، مشاركة الأطفال والبنات وكأن الاحتلال لم يستهدفهم في جميع المراحل- هل نسينا محمد الدرة وايمان حجو وفارس عودة. نقد مبالغ فيه لاستخدام السكاكين والدهس وكأننا نصدق رواية الاحتلال. استكبار اغلاق المحلات اثناء التشييع وكأننا لا نقدر الشهداء ونقارنها على قدم المساواة بالتضحية المادية للتجار. انتقاد اشعال شجرة الميلاد.. لقد تقهقرت النقاشات المطلوبة حول الطريق الذي يوصلنا إلى إنهاء الاحتلال، والطريق إلى الالتحام مع الحالة وترشيدها وتقوية ايجابياتها كحالة مقاومة، وتخليصها من سلبياتها ومنع الطريق على كسرها من الاحتلال.
 لا يمكن تسمية المقاومة والتضحيات انتحاراً، فالأسرى أضربوا عن الطعام طلبا للحرية وليس الموت. يهمني أن أرى وأن يرى غيري احترام التضحيات المقدمة والتصدي لمن يعتبرها مجانية، وأن نرى الكمّ والتنوع لدى الأجيال والاستعداد العالي للتضحية. مما يصبح لزاما علينا التضحية معها بما أوتينا من قدرة متنوعة: من يستطيع المقاومة بالحد الأعلى فليفعل، ومن يستطيع النضال بالحد الأدنى فليفعل، ومن يريد تقديم البدائل فليفعل، المهم أن نفعل شيئا للهبة يبقيها حية ويرفع المشاركة الجماهيرية بما يبعد الأطفال إلى الخلف ويخلصها من سلبياتها، وأن نفعل شيئا ما لتشكيل البيئة الحاضنة لها، ويؤمن لشبابنا ذوي الاستعداد العالي استمرار العطاء والبقاء أحياء، عوضا عن الاختصاص بتظهير السلبيات وإضافة عناوين جديدة للأزمة الداخلية، لم تكن ضمن اعتبارات الشباب الذين اندفعوا بشجاعة للقيام بواجبهم الوطني.    
من الواضح أن الظاهرة الشبابية المنتفضة فلسطينية أبا عن جد، لم تطلق وتفرغ طاقتها الجماعية أشكال المقاومة الشعبية بشكل مجدٍ، ولا داعي للتعمق بأسبابها ودوافعها الذاتية والبحث عن الظروف والاعتبارات الشخصية بكل حالة، لأنها متباينة ولكن يجمعها أنها موجهة ضد الاحتلال والحيلولة دون عيشه في هدوء وراحة وكذلك تكبيده ثمن احتلاله وعربدة مستوطنيه.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد