درجت إسرائيل في الآونة الأخيرة على تكثيف دعايتها السياسية على مفهوم التحريض الذي «تمارسه» السلطة الفلسطينية والرئيس أبو مازن على وجه التحديد، وذلك في محاولة يبدو أنها يائسة للهروب إلى الأمام كما اعتادت وكما يحلو لها اليوم أيضاً.
في كلمته أمام مؤتمر المناخ حاول نتنياهو أن يربط بين الإرهاب الذي تعرضت له أوروبا، وفرنسا على وجه التحديد وبين «الإرهاب» الذي تتعرض له إسرائيل في هذه الأيام (على حد زعمه) ولكنه فشل فشلاً ذريعاً. هنا أيضاً لأن أحدا من زعماء العالم لم يعر أي اهتمام بهذا الربط المزعوم ولم يؤخذ كلام نتنياهو على محمل الجد من الحاضرين.
وفي معرض تبريره الموجه للداخل الإسرائيلي حرص نتنياهو على توضيح المصافحة التي تمت مع الرئيس الفلسطيني على أنها مجرد مصافحة بروتوكولية، في حين حاول نتنياهو استثمار هذه المصافحة «للتدليل» على استعداده للسلام والتوجه نحو إنهاء حالة التوتر التي تسود في الأرض المحتلة من فلسطين بالاتجاه الخارجي طبعاً.
أما كل ما تفوهت به وزيرة «العدل» الإسرائيلية فهو بالنسبة لإسرائيل أمر لا يتعلق بالتحريض إذ إن تشبيه الفلسطينيين بالأفاعي السامة التي يجب قتلها قبل أن تبث سمومها فهذه استعارات لغوية لا علاقة لها بالتحريض!!!؟
عشرات من أعضاء الكنيست الذين حرضوا على القتل المباشر وسن القوانين التي تصرح للجيش بالإقدام على الإعدام دون الالتفات إلى أي شيء غير القتل نفسه فهذا الأمر برمته لا ينطوي على التحريض!!
أن يصل الأمر برئيس الوزراء الإسرائيلي بتحميل الفلسطينيين مسؤولية خاصة في المحرقة التي أقدمت عليها النازية لأكثر من ستة ملايين يهودي والذي اعتبر فيها (أي نتنياهو) الحاج أمين الحسيني هو المحرض الأساسي على المحرقة. هذا الهذيان السياسي لا يتعلق بالتحريض في الأعراف الإسرائيلية وإنما يتعلق «بدروس» خصوصية في علم التاريخ الحديث.
نتنياهو وحكومته وكل من ينضوي في الائتلاف الذي يحكم به يعرفون حق المعرفة أن 99% من عمليات الطعن والدهس التي جرت منذ بداية هذه الهبة تمت على خلفيات فردية، وغير منظمة، وغالبيتها الساحقة نابعة من مشاعر الثأر والانتقام كوسيلة للرد على سياسات إسرائيلية منظمة للقتل وإهانة الكرامة والإمعان بالعقوبات الجماعية، والإيغال في الاستيطان ونهب الأرض وتحويل حياة الفلسطيني إلى نوع من الجحيم.
ويعرف أعضاء الكنيست الذين كانوا يتنافخون ويتفاخرون باقتحام الأقصى في محاولة لاستفزاز الفلسطينيين وإلحاق الأذى المباشر لكل مشاعرهم الوطنية والدينية ويمعنون في هذه الممارسات تحديداً لإلحاق مثل هذا الأذى بالذات. 
ولا تكاد منظومة واحدة في إسرائيل تخرج عن هذا السياق. فمن الأحزاب إلى الكنيست إلى القضاء إلى الأمن والجيش إلى وسائل الإعلام كلها وعلى مدى سنوات طويلة يتنافسون على شيء واحد ووحيد: الكيفية التي يلحقون بها الأذى والضرر بالفلسطينيين والوسائل الأنجع لانتهاك كرامتهم الوطنية ومشاعرهم الدينية.
كل هذا بالنسبة لإسرائيل لا يتعلق بالتحريض وإنما بسلوك «دولة مسالمة، ديمقراطية وادعة ووديعة». أما الفلسطيني الذي يهدم بيته وتسرق أرضه ويمنع من الحركة والسفر ويمنع من العمل وتستباح قراه وتجمعاته من قبل المستوطنين، وصولاً إلى حرق الأطفال وهم أحياء فإنه إرهابي لأنه يحتج على ما تقوم به هذه الدولة الديمقراطية المسالمة، وهو يحرض على العنف والكراهية لأن السلام يقتضي قبول كل ذلك والسكوت عليه وإلاّ فإن الأمر يتعلق بالإرهاب والتحريض. الحديث عن أرض إسرائيل هو «حقيقة تاريخية» أما الحديث عن فلسطين فهو تحريض.
مناهج التعليم في إسرائيل ديمقراطية تماماً بالنسبة لحقوق الشعب الفلسطيني..!! أما مناهج التعليم الفلسطينية فهي إرهابية وتحريضية لأنها تتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني التي يقرها القانون الدولي والشرعية الدولية.
إسرائيل تسبح في حديقة منزلية وتتوهم أنها تسبح في محيطات العالم. إسرائيل خسرت كل شيء على مستوى معركة الرأي العام العالمي وهي في كل مرة تجرب حظها من جديد أملاً في استعادة ما خسرته من مساحة ولكنها عبثاً تحاول.
وإسرائيل خسرت معركة «الدولة الديمقراطية، في المنطقة وتحولت إلى مكرهة سياسية حتى على المستويات الدولية الرسمية. ولم يتبق لها في هذا العالم سوى الولايات المتحدة الأميركية.
والعلاقة الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة والمميزة والاستراتيجية ليست بسبب ديمقراطية إسرائيل ولا بسبب ديمقراطية الولايات المتحدة، وليس بسبب العالم الحرّ الذي تتوهم الولايات المتحدة بأنها ما زالت تقوده وليس بسبب التقارب الثقافي والفكري بين الدولتين ـ حيث إن مثل هذا التقارب حتى وإن وجد لا يبرر هذه الخصوصية في العلاقة ـ وإنما بسبب أن إسرائيل هي جزء عضوي من معادلة الصراع الداخلي في الولايات المتحدة. بمعنى آخر إسرائيل عنصر مؤثر في المعادلة الأميركية، ولا تستطيع أن تخرج أية إدارة عن تأثير هذا الدور مهما كان حجم العدوانية الإسرائيلية ومهما كانت «الخسائر» المنظورة للولايات المتحدة جراء هذه العدوانية.
وما لم يكن ثمن الانجرار الأميركي وراء مؤثرات الدور الإسرائيلي في المعادلة الداخلية الأميركية أكبر من الخسائر المنظورة لهذا الانجرار، وما لم يكن المجتمع الإسرائيلي نفسه قد تغير بحيث تتحول قوة التأثير الإسرائيلية إلى قوة باتجاه السلام فإن الولايات المتحدة، ستظل تتبنى المواقف الإسرائيلية بقدر ما يتعلق الأمر بجوهر الصراع وجوهر الحقوق وكل مراهنة على عكس ذلك، أو على بعض المجاملات الشكلية للعرب والفلسطينيين هي مراهنة فاشلة ويائسة ولا تستند إلى حقيقة المعادلة المؤثرة في القرار السياسي.
بالعودة إلى الإرهاب والتحريض فإن إسرائيل لم تجد من يؤيدها في هذا العالم سوى ما كان قد أدلى به السيد كيري قبيل زيارته الأخيرة للمنطقة، وما قيل على لسان الرئيس أوباما بأنه سيتحدث مع الرئيس أبو مازن حول «التحريض».
فهنيئاً لنتنياهو بأميركا وهنيئاً لأميركا بنتنياهو
أما نحن فنكتفي ببقية العالم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد