حفيدي جادّ: ثمة مقدمة مختصرة وتفهم المعادلة منذ البداية، تردد قلمي كلما كتبَ في الشأن الخاص، وتمرده شكلاً على البيئة والخصوصية، يخاف ويتبعثر، ويستعيد اكتشاف فسيفساء الشخصية الفلسطينية وخطابها، استهزاء الشأن العام بالخاص، استسلام الثاني للأول دون نزاع، إدارة ظهرهما المكشوف لبعض. الشأن الخاص في أعرافنا بمثابة خرق فادح للهوية. نحن الفلسطينيين خُلقنا لنكون مختلفين، نزغرد في الجنازات، ونبكي في الأعراس..

أنا جدتك «ريما»، اسم لا يتماشى مع النضال. أهداني جدك في بداياتنا اسما شعبيا: «أم الريم»، ولدى ولادة أمك مزج اسمينا لنصبح: «دريما».. لم أحصل على التأشيرة لسبب وجيه لا أعرفه، فأكون بين المستقبلين لطلتك الأولى، اقتنعت دون ذنب اقترفته أن أحدهم رأى ان ذنبي يسكن في عشق بلدي، فحرمني عشوائياً من استقبالك، انها الكلمة الأكثر ترداداً في العالم: «الارهاب»..
أنا جدتك «ريما»، لم تمنحني الحياة الكثير.. لكني أحببتها دون اكتراث بما أعطتني، اقتحمت الحياة وسط سدود وحواجز وحُفَر. لم يهمني منعهم التأشيرة عني؛ بقدر حرماني من شرف الإصغاء بخشوع لنداء الحياة، فأحصل على رطوبة أحتاجها. لا يهمني المنع، بقدر الاحتفال بقطع الحبل السرّي ووقف تطفلك البدائي على جسد أمك- ابنتي. لم يعنيني المنع، بل حرماني من طقوس تجدد الحياة، طبخ الكراوية؛ فتسعد بتلمظ أحد ملذاتها، فتغفو نصف إغفاءة..
لا يهمني عدم حصولي على «الفيزا»، بل معنية بتتبع أثر الهندسة على الجينات، بحث عن شعرة عملاقة على حاجبك الأيمن، وشعرة أخرى تتفوق على جاراتها على ذراعك اليمين، أصبع يتباهى أنه الأوسط والأطول في قدميك..عن بصيص الأخضر في قزحياتك، صفات العائلة الأصيلة والمتنحية.
ما يعني لي، أني لن أغني لك ما حفظته عن والدتي من أغان متوارثة وأهازيج. لن أشعر بدبيب الحياة تسري بين عروقك وعروقي على الكرسي الهزاز، وفمك يدور بحثا عن غريزة البقاء.
أنا جدتك «ريما»، سأهمس في أذنك عن بعد، أن جدك «خالد»، قد اختارني لدى تخييره بين حياة أمك وحياتي، كنت معلَّقة بين عالمين، فاختار الحياة الولود، اختيار أحببته ولم يعجب أمك، ستقنعها أن الخيارات مفتوحة دائما على حياة مرئية؛ ومغلقة على ما يتعذر فهمه..
وقصة الولادة عادة محببة لدى الجدات المتقدمات في العمر، نرويها بذات ال حماس وكأنها أسطورة. وبالمناسبة، جدك «خالد» اتهمني مع بداية ولوجي عقدي الثالث، بأن أعراض التقدم المبكر في السن قد بدأت تغزوني، وجدها في تغيُّر طارئ على هواياتي، الزراعة المنزلية، كتابة المذكرات وترتيب الصور. عبثا اقنعه، بأن الأمر يرتبط فقط بالانتظار..
أنا جدتك «ريما» التي تفكر بك من بين سطور أسئلة وإجابات الهوية، والد أردني وأم فلسطينية في أميركا، جد أردني متزوج من فلسطينية. وجدان فلسطينيان حتى النخاع. والنتاج في الامتداد خلطة جميلة وعلمان. سأفكر أن عليك الاستماع إلى شهادة جدة والدك عن قصة النكبة ، يوم اقتحم بيتها وهُجرَت من اللِّد إلى عَمّان، لقد وثق والداك القصة على قرص مدمج قمت بتسليمه الى لجنة تعتني بتوثيق التاريخ الشفوي..ما زال صوت الجدة يتردد في المكان والزمان متجرئة على عصابات «الهاجاناة»: «اتركوا لنا بعض المال»، فيتركون بعض القروش ويأخذون ما خف وزنه. من يومها تصبح وتمسي المدن الفلسطينية على القهر.
حفيدي «جاد»: يفصلني عنك أراض ومحيطات تجعلني في حالة مدٍّ وجزر؛ ت فتح شهيتي على شرح تناقضات الهوية وفي شرح الوجود. القِفار الفاصل بيننا يدفعني نحو الحديث خارج جلجلة النصوص.. عن بشريتي، ضعفي، خوفي، حزني، فرحي.. وفي حالتي، لم يعد لدي الكثير لأرويه، غرق في مراجعة المحطات الأجمل..ورغبة في تلاوتها عليك لتكون حجر الأساس في بناء وعيك وهويتك.
سأتوقف عن رصد علامات السُلالة، ما ظهر وما بطن، سأحب جميع ما يمكن ان تحمله من مواصفات، الهدوء الذي يحمل العواصف، شلال العواطف، نوافذ العيون، بعض البلادة والسرح إلى ما بعد النهايات، المشي على الخيوط..ولن اتوقف عن الدعاء في أن تحرس تخومك التمائم والخرز الأزرق، وان تمنع تعاويذي السحر عنك وتبعد المخمسات الأرواح الشريرة عنك.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد