293-TRIAL- مع تعثر إجراءات تطبيق المصالحة، وغياب أي أثر لحكومة التوافق على الأرض في قطاع غزة ، وارتفاع وتيرة التصريحات والتنديدات من هنا وهناك، وعودة أساليب التهكم والمناكفات الإعلامية بين فتح و حماس ، وتراجع مكانة الحكومة الفلسطينية واحترامها بين الآلاف من موظفي السلطة في القطاع، على إثر حالة التنكر لدفع رواتبهم بحجج وذرائع يراها الكثيرون أنها واهية، وأيضاً بسبب غياب أي موقف واضح من قبل الرئيس محمود عباس يشي بقرب انتهاء حالة المراوحة في المكان، وما يبدو عليه الميدان من فراغ سياسي وحالة تطنيش لا تبعث على التفاؤل والأمل، حيث خابت كل التوقعات بنجاح حكومة د. رامي الحمد الله في إخراج الفلسطينيين من ورطتهم السياسية والمعيشية، وتهيئة الأجواء للانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة.
إن هذه الحالة المثيرة للاستغراب تطرح العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام.. فمن يا ترى يتحمل مسئولية هذا الفراغ السياسي القاتل ووضعية الاحباط والإخفاق القائمة .. هل هو رئيس السلطة أم رئيس الحكومة؟! أم فتح وحماس؟!!
إن الذي يبحث عن الأعذار سيجد مخرجاً لهذا الطرف ومساحة من الاتهام للطرف الآخر، فهذا ما درجنا – للأسف - على ترديده من واقع الحال، و ذلك منذ أن وقع الانقسام في يونيه 2007م، حيث أوكل كل طرف لمجموعة من الناطقين والإعلاميين مهمة الردح والتبرير لتعليق فشله على شماعة الآخرين.
إن صاحب البصيرة لا تخطئ عينه معرفة الحقيقة، حيث إن كل الأطراف تتحمل مسئولية ما يجري، وإن كان ذلك بدرجات مختلفة ومستويات متفاوتة.. إن المنطق يستدعي القول بأن حكومة التوافق والرئيس (أبو مازن) هما من تقع على عواتقهما بالدرجة الأولى تبعات كل ما يحدث، بحكم ما آلت إليه الأمور بعد "اتفاق الشاطئ" من تسليم الولاية القانونية وأمانة المسئولية للسلطة الفلسطينية في رام الله ، حيث خرجت حركة حماس - نسبياً - من المشهد السياسي بانسحابها من الحكومة، وأن الأجهزة التابعة لها داخل الجهاز الشرطي والأمني قد توافق الجميع على استمرار عملها في مهمة حفظ الأمن والأمان حتى الانتخابات القادمة، وهي لا تمانع إن أراد د. الحمد الله القيام بتعيين وزير للداخلية يرتبط به بشكل مباشر، لإعادة ترتيب وهيكلة بعض الوحدات العاملة على المعبر وخط الحدود مع جمهورية مصر العربية، وأيضاً ما تمَّ التفاهم عليه من عودة ثلاثة آلاف من عناصر الشرطة السابقين والتابعين لحركة فتح.
إن محاولة تحميل حركة حماس ما يحدث من معاناة وقلق وتعليق لرواتب الآلاف من الموظفين في قطاع غزة، والتهديد بقطع أرزاق آلاف آخرين، هي سياسة لا أخلاقية، ولا تعكس روح الوطنية والتضامن التي نعرفها عن شعبنا العظيم، والتي كنا دائماً نقول: إننا نحمل همَّ هذا الوطن معاً حتى التحرير، نتقاسم لقمة العيش فيما بيننا، وأن طلقة الرصاص هي لصدر الاحتلال؛ فالوطن نحرره معاً ونبنيه معاً.. هذه هي عقيدتنا الدينية والوطنية والأمنية والسياسية؛ عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نلقى الله.
في الحقيقة، لم تعجبني كل المداخلات التي تبادلتها القيادات الفلسطينية في التعاطي مع واقع المصالحة المأزوم، والتي – للأسف - لم تقدم إجابات للموظف المطحون والشارع الحائر المغبون.. لقد غابت الكلمة الطيبة، وخانت الحكمة كل من أطلق تصريحاً كانت مهمته رفع الحرج عن نفسه أو مؤسسته، وكالعادة – في الفضاء والليلة الظلماء - افتقدنا "الرجل الرشيد" والقائد الفريد.
إن ما ورد على لسان د. موسى أبو مرزوق؛ الرجل الثاني في حركة حماس، حول التفكير بإعادة النظر فيما هو قائم من فراغ سياسي، إنما هو مجرد تحذير وإشارة للبدء بتحرك وطني واسع، يعيد القطاع لترتيبات إدارية يشارك فيها الكل الوطني والإسلامي، وحتى القيادي الفتحاوي محمد دحلان لن يكون بعيداً عن هذه الترتيبات، وبتنسيق مصري يمكن التفاهم حوله. هل يملأ دحلان الفراغ السياسي لحكومة رام الله؟
سؤال برسم الإجابة، حيث إن نقاشات الشارع لا تستثني حواراتها مثل هذا الطرح، فالأزمة تدفع الناس للتعلق بكل الحبال، والتفكير في كل الخيارات، ومن بينها محمد دحلان.
بعد الأحداث المأسوية الدامية في يونيه 2007م، والتي وجهت فيها الاتهامات للقيادي الفتحاوي محمد دحلان بأنه يقف خلف توتيرها وإشعال فتيلها، ساد شعور عام لدى الكثيرين بأن دحلان قد انتهى سياسياً، وأن السلطة في قطاع غزة التابعة لحماس ستسهم في شطبه من معادلة الحكم والسياسة، وذلك بقطع الطريق أمام عودته إلى القطاع للعب أي دور في استنهاض حركة فتح، وخاصة بعد كبوتها وتشرذم ولاءات قياداتها، وغياب الرأس الذي يملاْ طربوش السمع والطاعة فيها.
وبعد الخلاف الذي نشب بينه وبين الرئيس أبو مازن، والذي أخذ طابعاً شخصياً، حيث دخل الطرفان على خطوط حمراء مست جوهر العلاقة بينهما، وتجاوز فيها كل طرف حدود الصداقة والتاريخ والارتباط التنظيمي، واستباحا – للأسف - عبر اللقاءات الإعلامية أي محظور وطني وأخلاقي، ولم تقف التعديات المتبادلة في الفضاءات الإعلامية عند مفردات الاتهام بالعمالة والخيانة والاختلاس، بل تعدت إلى توجيه ضربات تحت الحزام في تلك المنازلة، التي حملت - في جرأتها – كل أركان المعادلة الصفرية (Zero Sum Game)؛ أي "يا أنا يا أنت"، وذلك بفصل عناصر قيادية من حركة فتح محسوبة على تيار محمد دحلان؛ كالنائب ماجد أبو شماله والوزير السابق سفيان أبو زايدة، فيما تم تسميته بقضية "التجنح".!! في الحقيقة، أن الحالة الفتحاوية في قطاع غزة هي في أغلبها "دحلانية الهوى"، وخاصة في أوساط الشباب، وهذه ظاهرة يلحظها كل من يقترب من هؤلاء الشباب الطيبيين، ويستمع لأحاديثهم ونبض شكواهم.. إن معظم هؤلاء يرون في دحلان الرجل القوي، وطوق الخلاص لاستنهاض حركة فتح، وخاصة في قطاع غزة.
وإذا كان هذا الشعور قد صاحب هؤلاء الشباب، وعاش فيهم منذ أن فقدت حركة فتح مكانتها في قطاع غزة، ولم يجدوا في القيادة التي تمت هندسة اختيارها رجالات الرئيس (أبو مازن) في رام الله، ولكنها – وهذا هو الواقع - ظلت تحبو وتتعثر في كل خطواتها، وتفشل بسبب قوة التيار الموالي لمحمد دحلان.
لم تتوقف مساعي خصوم دحلان داخل حركة فتح لتحجيمه، وذلك عبر محاولات إخراجه من الحلبة السياسية؛ تارة بالفصل من اللجنة المركزية، وتارة بمعاقبة المجموعة القيادية المحيطة به، وإبعادها عن دائرة التأثير وصنع القرار. ولكن يبدو أن الرجل يعيش بسبعة أرواح، وقد نجح في الحفاظ على نفسه، والنجاة من الاستهداف المعنوي والجسدي، من خلال علاقاته الإقليمية والدولية الواسعة، وهو حتى اللحظة ما زال يشكل رمزية قيادية وسط حركة فتح؛ كبرى الحركات الوطنية على الساحة الفلسطينية، يمكنها إذا ما استمرت حالة الترهل والخلاف داخل الحركة، أن يصنع تحالفات - من داخل وخارج الحركة - تعيده للساحة السياسية بمستوى من القوة والنفوذ، الذي يُمكّنه من النجاح في أية انتخابات قادمة.
حماس ودحلان: ألغاز ثلاثية الأبعاد
لا شك أن المصالحة التي تم توقيعها في اتفاق الشاطئ بتاريخ 23 أبريل 2014م كانت الفرصة للرئيس (أبو مازن) لاستعادة قطاع غزة لدائرة الولاء له، وخاصة باحتضانه لكوادر وقيادات حركة فتح، التي يبدو أنها آثرت "التجنح" باتجاه خصمه اللدود محمد دحلان، والتي تنامت شعبيته في القطاع بعد ظهوره إلى جانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث بدا وكأنه الشخص الذي يمسك بالكثير من أوراق العلاقة الفلسطينية - المصرية، والتي تراجعت بعد عزل الرئيس محمد مرسي، وإخراج الإخوان من حلبة الحكم والسياسة في الثالث من يوليو 2013م.
لم يكن أحد يتوقع انتكاس المصالحة وتعثرها بهذه السرعة، وأن تصدر عن الرئيس (أبو مازن) في هذا الوقت بالذات كل هذه التصريحات الصادمة للشارع الفلسطيني؛ حول قدسية التنسيق الأمني، وما ورد في كلمته التي ألقاها أمام وزراء منظمة التعاون الإسلامي بجدة في 18 يونيه الماضي، والذي أظهر فيها تعاطفه وتضامنه مع المفقودين الإسرائيليين، وتجاهله - في الوقت نفسه - لحملة القمع والاضطهاد والاعتقالات الواسعة، التي طالت نواباً ووزراء سابقين وعلماء وناشطين إسلاميين، وشملت كل مدن وقرى الضفة الغربية، وكذلك ما جاء على لسانه خلال مقابلته على تلفزيون "صدى البلد" مع الإعلامي مصطفى البكري، وذلك بتنكره لمسئولية دفع رواتب موظفي الحكومة السابقة في قطاع غزة، ومقولته التي استفزت مشاعر الكل الفلسطيني: "خلي حماس تدفع لهم.!!".
إن الشارع الفلسطيني لم يعد يستوعب أن ما تحدث به الرئيس (أبو مازن) يقع في خانة ما يسمى بـ"زلة لسان" سياسية، بل في سياق سلوك ونهج مضطرد يجرح كبرياء الفلسطينيين، ويمس كرامتهم النضالية. ولذلك، كان حجم الصدمة والذهول كبيراً في الشارع، وكانت مطالبة العديد من القيادات السياسية بالعدول عن المصالحة واتفاق الشاطئ، والبحث عن خيارات وطنية أخرى وحلول تحفظ كرامة الفلسطينيين وعزتهم.
في ظل حالة الغليان وغياب الأفق، وانعدام أي دور أو رؤية لحكومة الحمد الله في كيفية التعاطي مع ملفات قطاع غزة، يطرح البعض "خيار دحلان"، كبديل لملء الفراغ السياسي القائم، وذلك بعقد تحالف يجمع كل القوى الوطنية والإسلامية في إطار شراكة سياسية لا تستثني أحداً لإدارة شئون القطاع، بما في ذلك تيار حركة فتح الموالي للنائب والقيادي الفتحاوي محمد دحلان.
في السياسة يتحرك ميزان العلاقة أحياناً في اتجاهات قد لا ترضي هذا الطرف أو ذاك، حيث إن ضغوط الحياة ومصلحة العباد، وحق الناس في الحياة الكريمة تفرض على القيادة أن تفتش عن بدائل وخيارات أخرى، وعدم الانتظار للحظة يهلك فيها الحرث والنسل.
قد يستغرب البعض أن تنفتح حركة حماس على النائب محمد دحلان، وأن تسعى لكسب تياره القوي داخل حركة فتح في قطاع غزة، ولكن ليعلم الجميع أن لحظات التكالب والاستهداف عن قوس واحد تفرض على "الكيِّس الفطن" التصرف خارج حسابات الأيديولوجيا باتجاه فضاءات السياسة، وفرصها المتاحة في لحظات زمنية مواتية.
وإذا استمرت الحالة المأساوية التي عليها أهل غزة - الآن - فترة أطول، فإن رصيد الرئيس أبو مازن سوف يتآكل بشكل سريع، وسوف يتقدم كل من يحاول تقديم يد العون والمساعدة، ولا يستثنى من ذلك النائب محمد دحلان.
أتمنى أن تُعجل حكومة التوافق في أخذ زمام المبادرة بالتحرك، وتفعيل ما تم التفاهم عليه في اتفاق الشاطئ، قبل أن ينفجر الوضع، ولا ينفع – حينئذ - سيف أو عذل. 256

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد