بعد مرور شهر على الهبة الشعبية الفلسطينية ضد استمرار وجود الاحتلال، وبعد سقوط 74 شهيدا وآلاف المصابين برصاص جنود الاحتلال اغلبهم من الاطفال والفتيان، وفي يوم 31/ تشرين اول 2015 ميلادي، والموافق 18 محرم 1437 هجري، جرت مراسيم دفن كف القدم اليمنى للطفل الاسير عيسى المعطي 13 عاما، والتي تهتكت بسبب اطلاق رصاص الدمدم عليه من قبل جنود الاحتلال.
تحت شجرة زيتون خضراء، وفي مقبرة الشهداء في مخيم الدهيشة ، المطلة على كنيسة مهد المسيح عليه السلام ،و التي تقف على مدى سطح البحر الميت، و مطلة على واد قرية ارطاس الزراعية المروية بماء برك سليمان التاريخية بعد ان تحدت الينابيع جرافات الاحتلال ومستوطناته التي تسرق المياه، واتخذت من الصخور شرايينا تصب في التراب الفلسطيني الاحمر، تم دفن قدم الطفل المعطي، بمراسيم رمزية، وبمشاركة رمزية حادة وصعبة، وعلى لفح هواء بارد يلسع القلب والعينين ويطوح بقطرات البكاء.
دقيقة صمت امام زيتونة دفنت تحتها قدم طفل صغير سيكبر بلا قدم، استيقظ بعد العملية ناقصا مدهوشا مصدوما، تحسس جسمه لم يجد اصابعه، هناك فراغ تحت الغطاء، رائحة دم وادوية ، بكى وسأل أمه ماذا افعل بخطواتي القادمات؟
دقيقة صمت، اوراق الزيتونة الخضراء ترفرف في النسيم الشتوي المشحون بالموت والاعدامات والجنازات، تحاول ان تحرك الطفل ليجري في براري طفولته من بيته الى المدرسة كالغزال، وتحاول ان تطمئنه بانها ستسقي قدمه بزيتها وروحها لتنمو بسرعة، قالت :سوف احمي اسمك من الموت، وتكون وردا في حديقة الحياة.
دقيقة صمت، الخارجون من المستشفيات الاسرائيلة او من السجون، يعودون الآن جثثا او مبتوري الاعضاء، لأن التعليمات والقرارات والفتاوي والقوانين الاسرائيلية دعت الى القتل العمد واطلاق الرصاص على المتظاهرين، وتجنيد القناصة لاصطياد اي طفل يرشق حجرا او يرسم حلما في السماء.
دقيقة صمت، يطأ عيسى المعطي ارض الحكاية، لا سمن ولا عسل هنا، الارض رمادية حمراء، والفجر اسود يطول ويطول ، وكل الذكريات واللقاءات الآن قد تأخرت عن مواعيدها ، فالشعب الفلسطيني مشغول بإيقاظ موتاه، وايقاظ يداه وقدماه وعيناه وشدّ الانتباه.
دققية صمت، صغار يسقطون في فلسطين ، اعدامات ميدانية خارج نطاق القضاء، دفاتر المدرسة تتبعثر وسط الدم في الحارات والشوارع، حواجز عسكرية تحولت الى محكمة ميدانية للقتل واستباحة الدماء، والعالم يسمع نبض الدماء في الحصى وعروق المكان.
دقيقة صمت، وعيسى المعطي اوعدته الارض ان يطير بعد قليل، وان يصير حمامة بيدين وقدمين ، وان لا يفرغه الموت من جسده وشهواته وطفولته حتى يستيقظ الاحياء والاموات والحالمون.
دقيقة صمت، هو المذود الاخضر بنجمته الفضية، وكل ما حوله آيات وصلوات وابتهالات، وكل ما حوله رجاء بان ينكسر حصار البيت، ويرتد المحتل الى ثكناته واساطيره، ليمشي الهوينى مثل سحابة عائدة الى القدس ، ملأت غيومها بالعباد.
دققية صمت، غرف العناية المكثفة التي تشبه ثلاجات الموتى في المستشفيات الاسرائيلية تمتليء بالصراخ ، ماذا بعد قليل؟ يسأل الاهل المنتظرين وراء الابواب ، هل يخرجون سالمين ام موتى، يتاخر الجرحى، ينفجر الصمت في الروايات كأنها الحرب، والاسماء عديدة: مقداد الحيح، محمد شلالدة، اسراء عابد،اسراء جعابيص، قيس شجاعية، شروق دويات، مصعب غنيمات، مرح باكير، ماهر الفروخ، بلال ابو غانم، جلال شراونة، تامر وريدات، عنان ملش، محمد زيادة، احمد حامد، احمد مناصرة، وتتشظى الروايات على نهايات مفتوحة.
دقيقة صمت، ازدحمت السجون والمعسكرات بالاطفال، لا احد يسمع كيف دعسوا عليهم وضربوهم وعذبوهم واطلقوا عليهم الكلاب المتوحشة، لا احد يسمع كيف عروهم من ملابسهم في البرد، وشبحوا مقيدين مهانين، غياب للنزعة البشرية هناك في ظلام السجون، يقصفون الورد من صدور الاطفال ، يسأل المحقق طفلا لماذا وصلت حيا؟ يقول الطفل: كي اقنع الهواء باحتضان خطوات الحجر
دقيقة صمت، قدم عيسى المعطي تستقر في قاع الزيتونة ، قليل من الماء، تحمله الكلمات لاكمال المراسيم في وقفتها الاخيرة، وقد ايقن الجميع ان في داخل جسده شرفة يمر بها شعب الى حديقة جسده، تستيقظ فيه اعضاؤه وزهوره، يتنفس الجسد في التراب، ليشهد الحاضرون انه لا زال حيا، عثرت حواسه على موطيء في الذاكرة لينهض مكتملا بقدمين وجناحين كالملاك.
دقيقة صمت ، بل ملايين الدقائق واقفين في العزاء او امام المقابر ، نقرأ الفاتحة هنا، ونحمل نعوشا هناك ونسافر الى آخر الآخرة ، ويسألنا مناديا في الابد: ما هذا الشعب يقتلع الموت ليموت اكثر متجمدا في الوقت.
دقيقة صمت، لأجسام الاسرى المدمرة في عيادة مستشفى الرملة الاسرائيلي، اكياس تتدلى من فتحات البطون والخاصرة، واجسام مشلولة تتدحرج كالكرات بين الفراغ والصدى.
دقيقة صمت، عندما حمل السجان وصايا الاسرى المصابين والمرضى وأكياسهم السوداء، استدعى الحاخام والمحقق والجندي، استيقظ الاسرى، لملموا اعضاءهم بعد ان نفخوا رمادهم في الموت.
دقيقة صمت، للجريح الذي اطلقوا عليه الرصاص على حاجز زعترة العسكري، لم تصل سيارة الاسعاف حتى الآن، الروح تتحرك في اليدين والشفتين على الاسفلت، احاط به المستوطنون، رقصوا واحتفلوا امام شهقاته البطيئات الصاعدات العنيدات المحمولات على ضوء ومطر وصوت.
دقيقة صمت، زرعنا زيتونة فوق لحم ودم وعظم الطفل عيسى المعطي، الدنيا ظهيرة، كلمات الشيخ المفتي يقاطعها دوي الرصاص، اما والدته المفجوعة تتحسس التراب تحت قدمه، يضيء لامعا كالزيت.
دقيقة صمت، هي غنائية الصلاة للمرحوم الشاعر سميح القاسم بعد ان شاهد قطرة من دم عيسى سقطت من جفن مريم العذراء، صاح يا دمي قم وتكلم، غصّت الارض جرادا ومجوسا، سيضيق قبري، ستضيق نافذتي ويتسع الجدار.
دقيقة صمت، يتعثر الشهداء بالشهداء العائدين في مساء مدينة الخليل ، الشهيد يزف الى الشهيدة، يخرج الاحياء على ضوء خطاهم في ذلك الليل الطويل، اين النهار؟ يسأل الشهيد الشهيد، يختصرون الجهات والذكريات ، يتمشطون بالريح وبالدوالي في باحة الدار.
دقيقة صمت، للمخنوقين بالغاز، الطفل الرضيع رمضان ثوابتة والعجوز هاشم العزة، ومن الخليل الى بيت لحم الى القدس الى جنين، افران غاز وحرائق في المسافات المسلحة، ليؤكد المؤرخ ان اسرائيل لم تنتصر على هتلر في التاريخ ، وما زال يحرك بنادقها وثقافتها من مذبحة الى مذبحة.
دقيقة صمت على صوت توفيق زياد:
وأبوس الارض تحت نعالكم
واقول أفديكم
واهديكم ضيا عينيّ
ودفء القلب اعطيكم
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية