فكما لا تستطيع المرأة أن تكون نصف حامل فإن الوضع الفلسطيني قد وصل إلى حالة لا يقبل أن يظل في وضع نصف الاحتلال.

نصف الاحتلال هو احتلال وليس نصف حرية ونصف استقلال.
وصلنا إلى وضع أصبح بموجبه الاحتلال الكامل أفضل من نصفه، بل وأفضل بكثير، ذلك أن حالة نصف الاحتلال يمكن أن تكون "مقبولة" في مرحلة مؤقتة على أمل ان تنتهي ـ أي حالة الاحتلال ـ مع نهاية المرحلة المؤقتة. وفي الحالة الفلسطينية فقد كان مقبولاً أن يظل نصف الاحتلال حتى سنة 99 من القرن الماضي، وربما كان "مقبولاً" أن يتم مدّ هذه الفترة الانتقالية إلى عام أو عامين آخرين.
أما أن تمتد هذه المرحلة إلى أكثر من خمسة عشر عاماً بعد نهاية تلك المرحلة، وأن تتحول الضفة والقطاع إلى "يهودا والسامرة" وإلى أرض إسرائيل الكاملة، وأن يتغوّل الاستيطان، وأن تسابق إسرائيل الزمن لتهويد القدس وأن تشهد هذه المرحلة بالذات أعلى معدلات من الاستيطان والتهويد وسرقة الأرض ومصادرتها وأن تشهد الضفة اجتياحاً عسكرياً كاملاً وان يشهد القطاع ثلاث حروب مدمرة تشنها إسرائيل وتقتل آلافا مؤلّفة من المدنيين فهذا يدلّ دلالة قاطعة على أن المرحلة الانتقالية بالنسبة لإسرائيل لم تكن سوى المرحلة التمهيدية للهجوم الشامل على الشعب الفلسطيني وعلى حقوقه الوطنية وعلى مقدراته وأهدافه وأمانيه.
الطامة الكبرى إذن، هي أن نصف الاحتلال قد أعطى الفرصة الكاملة لاستكمال الاحتلال وبذلك بالذات فإن "أوسلو" لإسرائيل قد انتهى مفعوله بالضبط مع نهاية المرحلة الانتقالية التي كان من المفترض أن تكون نهاية مرحلة الاحتلال.
إسرائيل في الواقع وعلى الأرض تجاوزت كل خطوط "أوسلو" بل وداست عليها، وبقينا نحن إما بسبب ضعفنا أو قلة الحيلة لدينا أو ربما بسبب الافتقاد إلى الإرادة الضرورية المطلوبة نراهن على "تجديد" مرحلة انتقالية ما في حين أن إسرائيل ظلت تراهن على "مراهنتنا" لاستكمال خطة تدمير الحل وتحويله إلى مستحيل سياسي.
صحيح أننا وخلال هذه المرحلة قدنا معارك سياسية ناجحة، وصحيح، أيضاً، أننا قمنا بمواجهات ميدانية بطولية، وأحياناً أجبرنا على مواجهات عسكرية ضارية إلاّ أن الحصاد السياسي لهذه المرحلة التي امتدت بين عام 1999 وحتى يومنا هذا قد انتهت الى حالة نصف الاحتلال الذي هو اليوم وفي الواقع احتلال كامل يتلطّى وراء اتفاقيات ليست سوى مزعومة وهي ليست أكثر من غطاء لاستمرار الواقع بما فرضت فيه إسرائيل من وقائع.
إذن، المأزق الفلسطيني وليس الأزمة الفلسطينية يكمن في استمرار الواقع كما تحاول أن ترتّبه إسرائيل على مقاس مطامحها في إنهاء حق شعبنا في الحرية والاستقلال ولا سبيل إلى الخروج من هذا المأزق إلاّ بسحب البساط السياسي الذي تستغله إسرائيل وتحويل ممارساتها وسياساتها إلى احتلال سافر ومكشوف في مواجهة شعبنا أولاً وفي مواجهة شعوب المنطقة العربية وفي مواجهة دول الإقليم ودول العالم بأسره وكل ما ينتمي إلى الأسرة الدولية والمجتمع الدولي.
إن الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية عَبر الجمعية العامة والتصويت على رفع العلم الفلسطيني على أروقتها هي في الواقع دولة تحت الاحتلال.
إذن، وصلنا إلى وضع يتطلب أن نتصرف على أساس أننا دولة تحت الاحتلال وعلاقاتنا بإسرائيل هي علاقة الدولة المحتلة بالدولة الواقعة تحت الاحتلال، وهذا هو بالضبط ما يجب أن تكون عليه الأمور وهذه هي القاعدة الوحيدة التي تضمن لنا زجّ كل الطاقات الإقليمية والدولية في مواجهة الاحتلال وتحويل المعركة السياسية والدبلوماسية من معركة "ضغوط سياسية" إلى استحقاقات سياسية في مواجهة الاحتلال.
المعركة إذن هي تحويل الصراع إلى صراع مباشر مع الاحتلال في كل شيء وليس مجرّد اعتراضات سياسية على ممارسات الاحتلال.
وبهذا المعنى فإن أي مفاوضات ستقوم بها المنظمة أو السلطة الوطنية ستكون مختلفة من حيث الوجهة والاتجاه، ومن حيث الأهداف والآليات وبكل تأكيد من حيث القوى الراعية والحامية والضامنة لهذه المفاوضات.
إذن، نحن أمام مرحلة جديدة لا تقبل استمرار الواقع الذي تفرضه إسرائيل وعلينا أن نعد أنفسنا لمواجهة مع الاحتلال نكون فيها نحن أصحاب المبادرة في تحديد وجهة الصراع وليس ردود الأفعال على الواقع الذي تكرسه أو تحاول أن تكرسه إسرائيل.
الاعتراف الدولي بنا ليس مجرّد مفصل سياسي مهم وإنما هو قاعدة جديدة لمرحلة جديدة ولجهود وطنية موحدة وجديدة في تجديد حيوية المشروع الوطني وعلى مستوى إنهاء الانقسام وإعادة بناء النظام السياسي وتطوير آليات وأطر كفاحية وطنية شاملة وموحّدة لمواجهة الاحتلال، وتحويل السياسة الإسرائيلية إلى مستحيل سياسي وإلى حالة منبوذة ومحاصرة وإلى عبء وخطر على السلم العالمي، وحينها فقط تدق ساعة الاستقلال.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد