يثور نقاش كثير عن فحوى خطاب الرئيس أبو مازن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها المنعقدة في نيويورك، خاصة مع تسرب أحاديث عن قنبلة سياسية سيفجرها الرئيس في خطابه المزمع، فيما حقيقة النقاش يجب أن تتركز على ضرورة إعادة القضية الفلسطينية والصراع إلى مركز الاهتمام العالمي بعد حالة التراجع التي شهدتها السنوات الأخيرة مع صعود قضايا أخرى.
إن حقيقة الأمر أن جوهر النقاش يجب أن يتركز حول ضرورة إعادة توجيه الاهتمام الكوني حول القضية الفلسطينية ومركزيتها بالنسبة للمجتمع الدولي، وعدم السماح بأن توضع في الأدراج أو على الرفوف.
وعليه فإن الخطاب الفلسطيني يجب أن يعيد القضية إلى مكانتها في الأجندة العالمية. إنه نفس المنطق الذي حكم السياسة الفلسطينية والثورة الفلسطينية طوال العقود الماضية أمام ماكينة النسيان والإهمال التي تحاول إسرائيل فرضها على حقيقة الصراع ومكانته.
إنه خطاب التذكير بالحق الفلسطيني المسلوب وبأن الشعب الفلسطيني لن يصبر كثيراً أمام صمت العالم على ما تقوم به إسرائيل وتهربه من مسؤولياته.
إن المجتمع الدولي الذي خلق أزمة الشعب الفلسطيني وكان السبب المباشر في خلق نكبته، عليه تحمل مسؤولياته تجاه حل هذه القضية.
فلولا هذا المجتمع وتكويناته ومنظماته التي على رأسها الأمم المتحدة لما وجدت نكبة الشعب الفلسطيني. فالمجتمع الدولي هو الذي جاء بالمستوطنين اليهود لفلسطين حتى يحل مشاكل أوروبا على حساب الشعب الفلسطيني، وهو من أصدر وعد بلفور المشؤوم وقرار التقسيم ومكّن المستوطنين اليهود من إقامة دولتهم على أنقاض الشعب الفلسطيني وقراه ومدنه، كما أنه هو من اعترف بدولة إسرائيل ولم يسع لإقامة دولة فلسطين تحقيقاً لقراراته الكارثية. ولما كان الأمر كذلك يجب إعادة الملف للمجتمع الدولي حتى يتحمل مسؤولياته، وحتى يصوب أخطاءه.
إن صمت المجتمع الدولي عن الجرائم التي تمارسها إسرائيل وعجزه عن تنفيذ القرارات التي يتخذها، هما السبب المباشر في استمرار نكبة الشعب الفلسطيني وعدم تحقيقه لأدنى متطلبات الحياة الكريمة، وإنجاز الحد الأدنى من حقوقه السياسية المسلوبة.
إن الاحتلال لا يحدث صدفة، وليس هو نتيجة طبيعية لأي وضع، بل هو انعدام للأخلاق في المجتمع الدولي الذي يصمت عليه، ولا يحرك ساكناً من أجل إعمال المواثيق التي تحمى حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال وتقرير المصير.
ليس من مناص أمام الفلسطينيين إلا إعادة الملف إلى الطاولة والجهر بأن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية احتلال أرض فلسطين وتشريد شعب فلسطين وإطالة عمر الاحتلال مثل دولة الاحتلال ذاتها. المجتمع الذي يحرك قواته من أجل تنفيذ قرار واحد في الخليج أو في شرق أوروبا ويخوض حروباً من أجل إعمال إرادة الدولة الكبرى التي يتم التعبير عنها عبر قرارات أممية، يبدو عاجزاً عن لجم دولة هو صنعها. بل أبعد من ذلك يقف مشلولاً أمام تنفيذ اتفاقيات سلام هو من رعاها وتعهد بتنفيذها، وكانت تحقيقاً لرغبته الظالمة بالنسبة للشعب الفلسطيني، والذي قبل بها الأخير على ما فيها من غضاضة.
إن الحكمة تقتضي أن لا يكون المجتمع الدولي وسيطاً، بل هو طرف في الصراع لأنه من أوجده، وعليه تقع عليه مسؤولية إيجاد حلول له، وفرضها. من هنا يكون النقاش في مكانه الصحيح.
لقد تراجعت مكانة القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة في سلم أولويات المجتمع الدولي بسبب انشغالات القوى الكبرى بقضايا باتت اكثر إلحاحاً وتهديداً في نفس الوقت على ما يعرف بالسلم والأمن الدوليين.
بالطبع الأمر الأكثر إلحاحاً بالنسبة للقوى الكبرى بات تبعات الربيع العربي، خاصة الصراع الدائر في سورية.
فلم تعد الأزمة السورية التي حركت سمومها دول كثيرة، أزمة سورية خالصة، إذ إن تبعاتها وصلت إلى الدول الأوروبية.
لم يصل فقط اللاجئون السوريون إلى تخوم اوروبا هرباً من الموت المحقق بسبب الاقتتال الدائر منذ سنوات، بل إن طريقة معالجة وصولهم والتعامل معهم أعاد الكثير من النقاش حول مستقبل وهوية الاتحاد الاوروبي.
القضية الأكثر حدة كانت فكرة الحدود المفتوحة بين دول الاتحاد وإذا ما كانت الدول تتفق في وجهة نظرها لمفهوم هذه الحدود، ولمفهوم الحقوق المترتبة على ذلك.
لقد كشفت معالجة بعض دول أوروبا الشرقية تحديداً لأزمة المهاجرين السورين الكثير من سطحية الاتفاقيات الأوروبية على الحدود وتوحيد اجراءات السفر والهجرة.
وعليه فإن الأوروبيين باتوا أكثر قلقاً على ضرورة حل الأزمة السورية والانشغال بما جلبته لهم من قضايا عصفت بالكثير من الطمأنينة التي زعموا أنهم يتفقون حولها. المهاجرون السوريون الآن في شوارع المدن الاوروبية الكبرى وفي محطات القطار، والدول تتخذ سياسات متباينة إزاء التعامل معهم.
كل هذا جعل من الأزمة السورية أزمة أوروبية بحتة. بالطبع هذا جاء على حساب القضية الفلسطينية والدفع الذي كادت أوروبا أن تقوم به خلال طرح المبادرة الفرنسية.
لا حاجة للقول إن الولايات المتحدة ليست بحاجة لسبب من أجل أن تضع القضية على الرف ولا تنظر فيها، خاصة مع جبن اوباما وعجزه في التعاطي مع حكومة نتنياهو ومحاولته عدم الدخول في معركة معها خاصة مع اقتراب انتخابات الرئاسة والكونغرس.
سيسجل التاريخ أن اوباما عجز في كل شيء يتعلق بالسياسات الخارجية خاصة عند مقارنة بلاغته الخطابية بأفعاله الباهتة.
يمكن سحب نفس النقاش على الكثير من الدول الكبرى أيضاً مثل روسيا. بالطبع الأمر لا يختلف كثيراً عند الحديث عن الدول الإقليمية. أما الدول العربية الكبرى فهي مشغولة أيضاً بقضاياها الداخلية وحروبها الصغيرة.
من هنا فإن الدفع الحقيقي الذي يمكن لخطاب الرئيس أبو مازن أن يقدمه هو أن يضع القضية مرة أخرى أمام الطاولة العالمية، والقول إنها هي جوهر كل الصراع في المنطقة، وانه دون حلها فإن الاستقرار لا يمكن أن يكون ضيفاً مرحباً به في الشرق الأوسط. إلى جانب تذكير العالم بمسؤوليته وواجباته التي يتهرب منها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية