تشهد الساحة الفلسطينية في الآونة الأخيرة بعض التخبطات في القضايا السياسية و في عملية اتخاذ القرارات السياسية المناسبة للخروج من مأزق تعطل العملية السلمية ، مرورا إلي إيجاد حل للصراع الفلسطيني الداخلي، الذي انعكست أثاره السلبية على عملية إعادة الإعمار بقطاع غزة .
و يعيش الشعب الفلسطيني حالياً ، في أسوء حالاته الإنسانية و الاجتماعية و الاقتصادية ، حيث انعدام أي فرص للوفاق الداخلي بين الفلسطينيين و غياب أي أفق سياسي لمستقبل أمن و زاهر لهم، خاصة لسكان القطاع.
فالصورة التي تطغى على المشهد الفلسطيني ، هي في مجملها صورة سوداوية ، تنمُ عن شعور بالإحباط و اليأس من قبل الفلسطينيين ، تجاه قادتهم السياسيون في كل من الضفة الغربية و قطاع غزة، وذلك لافتقاد هؤلاء القادة لمفاتيح حل الصراع الطويل المدى بين الفلسطينيين و الإسرائيليين، و لعدم قدرتهم على توحيد الصف الفلسطيني و تعزيز السلم الأهلي و التماسك الاجتماعي بين أفراد المجتمع الفلسطيني.
فعلى سبيل المثال ، مازال قطاع غزة يخضع لليوم، لحكومة الأمر الواقع التي لا تعترف بجميع صلاحيات حكومة التوافق الوطني، ومازال أهل غزة يعانون من كوارث و أزمات إنسانية في ظل انعدام أي نهج سياسي لحل سلمي دائم ، يُجنب الفلسطينيين ويلات الحروب و النزاعات.
أما في الضفة الغربية، فما زالت مخيماتها تُسيطر عليها بعض الفصائل الفلسطينية المسلحة التي تخوض صراع مبطن بينها وبين الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية في رام الله ، بينما تشهد مدينة رام الله، تقدماً برجوازياً سريعاً، أدى إلي اتساع الفجوة أكثر فأكثر بين طبقتي الفقراء و الأثرياء، و تخضع باقي أراضي الضفة الغربية لتهديدات الاستيطان الإسرائيلي.
أما بالنسبة للقدس الشرقية، فمازال أهلها يخوضون معركة البقاء الديني في باحة المسجد الأقصى ، حيث المرابطون و المرابطات، يقودون يومياً معركة دينية بينهم وبين اليهود من أجل حماية المسجد الأقصى ، من أي مخطط إسرائيلي لتقسيمه في المستقبل.
صراعات داخلية هنا و هناك ، وأزمات إنسانية لا تنتهي، و إحباط سياسي ، و ثراء فاحش، وفقر مدقع، وقلة خبرة سياسية عملية في قيادة الشعوب نحو مستقبل مشرق ، كل هذه العبارات لا يمكنها أن تعبر عن مدى إحباط الشعب الفلسطيني تجاه قيادته الحالية.
فالشعب الفلسطيني بالفعل فقد الأمل في حياه مزدهرة ومستقرة ، و هو يعيش الآن في أصعب مراحل حياته ...
وفي ظل هذا اليأس الشعبي ، بدأت جميع الأنظار تتجه نحو البحث عن البطل الذي يمكنه أن ينقذ الشعب الفلسطيني ويقوده للحرية و الاستقلال ، خاصة بعد أن هدد الرئيس الفلسطيني محمود عباس عدة مرات، بأنه سوف يقدم استقالته و سوف يفكك السلطة الفلسطينية، مما جعل ذلك، عدد كبير من المحللين السياسيين يتكهنون حول هوية الرئيس الفلسطيني القادم ، الذي سيحل محل عباس في حين نفذ تهديده بالاستقالة ، فهل هو الأسير مروان البرغوثي أم هو الفتحاوي المتمرد محمد دحلان ، أم هو زعيم حمساوي كبير أو شخص أخر مذكور في قائمة انتظار إسرائيل الطويلة، ينتظر فقط إشارة لكي يحل مكان عباس ؟
إن بعض المثقفون و المحللون، يبحثون عن بطل أو منقذ للشعب ، لكنهم يكادوا أن يتجاهلوا، أن لا أحد يستطيع أن ينقذ الشعب الفلسطيني إلا الشعب الفلسطيني نفسه، برجاله ونسائه، وبشبابه و أطفاله.
إن نظرية البحث عن بطل تُصور الشعب الفلسطيني، بأنه شعب مغلوب على أمره وضعيف ويفتقد القدرة الداخلية من أجل تغيير واقعه المؤلم ، فما يحتاجه الشعب الفلسطيني هو أن يعتمد على نفسه و أن يطور آليات سلمية للتغيير، لا تعتمد على نظرية الخضوع لقائد أسطوري عظيم ، لأن عصر البطولة الأسطورية قد انتهى منذ عدة قرون في دول العالم المتقدمة ، و إذا ما أراد الشعب الفلسطيني أن ينقذ نفسه عليه أن يبدأ بتغيير نفسه لكي يواكب الحضارة و ينال استقلاله وحريته الكاملة.
فلا يجب أن يتم تحميل مسئولية الفشل السياسي فقط على القادة، بل الشعب يجب أن يتشارك مع قادته في تحمل مسئولية الفشل، وهؤلاء القادة ما هم إلا مخرجات حقيقية للشعب ، فإذا كان الشعب واعي وزكي، سوف يخرج منه قادة أذكياء وواعين، أما إذا كان الشعب غير واعي و غير ديمقراطي ، سيخرج منه قادة يتخبطون يوميا في قراراتهم السياسية، بسبب عدم حنكتهم السياسية وتفردهم باتخاذ القرار، فببساطه القادة هم مرآه الشعوب!
إن ما يجب العمل عليه، هو تطوير نظم سياسية و اجتماعية ديمقراطية ، تُمكن الشعب الفلسطيني من المشاركة السياسية السلمية، و تُشركه في عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالقضايا المصيرية، فليس من المعقول أن يتم احتكار القرار السياسي الذي يؤثر على مصير الشعب، في يد فئة سياسية معينة، دون إعطاء فرصة للشعب بأن يُعبر عن أرائه بحجة أن الشعب لا يعي مصلحته و أن تلك النخبة هي وحدها من تمتلك الحكمة و الخبرة في عملية اتخاذ القرارات المصيرية للشعب الفلسطيني.
وفي عهد أصبح فيه السياسيين، هم مجرد موظفين يتلقون رواتبهم تحت إطار تنظيماتهم السياسية ، نستطيع أن نقول أن هؤلاء السياسيون، فقدوا قوة تأثيرهم على شعبهم ، لأنه بكل بساطه ، السياسة هي ليست وظيفة ،بل هي وسيلة ومنهج لتوجيه الشعوب نحو أهداف وطنية تحقق مصالحهم ، و ليست عبارة عن صفقة أعمال أو دعاية لشخصية معينه، لنيل مصالح شخصية ما، قد تتمثل بإشباع رغبة السياسي في السلطة و الحكم وجنون العظمة.
إن العمل السياسي الوطني ليس مجرد حلم شاب مراهق أراد في يوم ما، أن يكون صلاح الدين ! أو جشع كهل أربعيني أراد أن يشبع غريزته في امتلاك السلطة ! أو ملل رجل مسن أراد أن يهدم المعبد فوق رأس الجميع لقلة حيلته ! أو حتى طموح إمرأه أرادت أن تكون قديسة الوطن !
إن العمل السياسي هو مجرد أداة لقيادة الشعوب نحو تحريرهم من عبودية التخلف و الجهل و إلحاقهم بركب التطور و التنمية في كافة مجالات الحياة .
فالشعب لا يحتاج إلي بطل لكي يحرره، بل هو بأشد الحاجة إلي قيادة حكيمة تُمكنه من تغيير حاضره الأليم ، و تعزز ثقته بنفسه نحو بناء مستقبل مشرق له و للأجيال القادمة.
لقد انتهى عصر البطولة ، وحان الوقت بأن يستيقظ الشعب من ثباته و يعترف بنقاط ضعفه و يتعلم من أخطائه، وأن يفكر ألف مرة قبل أن يختار حكامه المستقبليين، الذين يجب أن يتم التعامل معهم كوكلاء للشعب ، يوقعون عقد اجتماعي ووطني مع شعوبهم ، و يُمكن لشعوبهم أن تلغي عقودهم في أي وقت ، حينما يخل هؤلاء الوكلاء ببنود العقد.
ولكي يصل الشعب الفلسطيني لهذه المرحلة من النضج الديمقراطي و الفهم الواعي لمنظور المسائلة الاجتماعية تجاه حكامه و قيادته ، أعتقد أن الطريق أمامه طويل وسيحتاج ربما لعقود لكي يصبح لدى الشعب الفلسطيني نضج سياسي كافي يجعله قادر على التحكم بمصيره بشكل واعي و بأسلوب سلمي و حضاري.
لذا ربما ما يمر به الشعب الفلسطيني الآن من أزمات ونكسات هو مرحلة التعلم من الفشل حيث سيورث هذا الفشل في ذاكرة الأجيال القادمة ، و سيجعل هذا الفشل تلك الأجيال تتعلم كيف يمكنها اختيار قادتها ، و كيف يمكنها تغيير مصيرها باستخدام أدوات الديمقراطية السلمية و تفعيل سلطة القانون، بحيث لا رصاصة تعلو فوق كلمة الحق، و لا قوة تسطو فوق سلطة الدستور!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية