تذكرت في بداية الثمانينات زميلي الاسير ابراهيم ابو غزالة ابن مدينة القدس ، عندما قطعوا عنا الماء في زنازين سجن المسكوبية، اشتعلت اجسادنا واختنقت الزنزانة بنا، وجفف الضوء الاصفر الساطع من سقف الزنزانة اجسامنا، ولم تنقذنا سوى غيمة عابرة في الخيال، حملتنا واسقتنا ومددت اعمارنا قليلا.

على مدار خمس سنوات تقريبا، يخوض الاسرى اضرابات مفتوحة عن الطعام فرديا وجماعيا، وخاصة ضد الاعتقال الاداري، وقد وصل بعضهم الى لحظة الموت كالاسير محمد علان الذي صار جسده يتآكل في اليوم الخامس والستين من الاضراب المفتوح، فاض الماء خارج توقعات دولة اسرائيل.

الماء هو الوحيد الذي يتناوله الاسرى خلال الاضراب، الماء والملح احيانا، ويسري هذا الماء في الشرايين، يمد العقل البشري ببحار واسعة، ي فتح الاشرعة، ويمخر الجسد في هبوب العاصفة، يحاول ان لا يغرق او يتوقف، فالماء ارادة الحياة عندما يغلق السجانون نوافذ الحياة، ويتكأ الاسرى على زند الهواء.

قطرة الماء، اذبحك واشرب اشرب، هو صوت اسرى لا زالوا يخوضون اضرابا مفتوحا عن الطعام ضد اعتقالهم الاداري التعسفي، معزولون في الزنازين الضيقة، يفضلون الغناء على الحوار مع جلادين لا يتقنون سوى لغة القمع، ويفضلون استدعاء السحاب الى ضفاف ايمانهم ويقينهم ، كانهم اصحاب نبوءات واسئلة وجودية ربما هي سر هذا البقاء.

قطرة الماء، اذبحك واشرب اشرب، قالها آلاف الاسرى منذ بداية الاحتلال عام 1967، وخلال اشتباكهم الدائم مع دولة ارادت من السجن ان يتحول الى اداة للتصفية النفسية والوطنية للاسرى، خرج الماء من اليد اليمنى، وخرج من الجرح النازف، وخرج اكثر من صحراء سجن النقب حينما ابتكر الاسرى طريقة لزراعة الرمال والحجارة السوداء.

قطرة الماء اذبحك واشرب اشرب، يمسكون الريح واقفة على اصابع قدميها، يسكبون رماد الصمت فوق لهب الكلام، ويشهد على ذلك شهداء سقطوا واقفين، منذ عبد القادر ابو الفحم حتى رائد الجعبري، صاعدين الى المعجزة، منتشرين فوق الارض وفي برج السماء، ناثرين موتهم وكل الاسئلة.

قطرة الماء اذبحك واشرب اشرب، تسألهم تلك السنبلة، من اين جاءكم هذا الماء ايها الاسرى البعيدين عن الاخضر والمطر؟ اظنهم موجة تسافر كاللغة من معسكر الى معسكر، واظنهم حلما تستيقظ على ايقاعه كل النجوم.

قطرة الماء اذبحك واشرب اشرب، هو وطن يستحق المكابدة، ويستحق المعاندة، وهم ابناء ولدوا قبل الف عام، يخبئون ذاكرة تنبض في تراب الارض، يتحولون اذا ماتوا الى جذور تنغرس في خطوات القادمين المولودين في رام الله او حيفا، او في درس اللغة العربية في صباح المدارس.

قطرة الماء، اذبحك واشرب اشرب، ليهبط قراء السماء على ارضنا، ان كانوا يريدون ان يصغوا الينا، او يقرأوا ما نكتبه في السجون، على الحواجز، في الجنازات والاعراس، في باحة المسجد الاقصى، في ساحة الميلاد، في حقولنا، ماؤنا ينسكب على جسد الوقت.

قطرة الماء، اذبحك واشرب اشرب، وانا من رأيت الماء على رصيف الشارع في الاعتصام التضامني المسائي بمخيم الدهيشة، ولم اصدق ان لايام النكبة اجنحة في أقدامها، سلاسل في اعناقها، اليوم يعيد المخيم عيد ميلاده المنكوب ، قلت: للمخيم مخالب تخرج من الصور.

قطرة الماء، اذبحك واشرب اشرب، ينحنون في الزنزانة ليلتقطوا اشلائهم، والآن صرت على قناعة يا صديقي يا ابن القدس، ان التاريخ يكتبه الاسرى، وهم اهل الماء، ملوك الماء، يعرف ذلك الساكنون على شط تل ابيب، يراقبون صعود الملح من البحر.

هناك ماء وماء
في كل نقطة ماء
زرعنا كلمة
وصغنا آلامنا وآحلامنا
في جرار جوعنا
ونعتقها
ابواب السماء لمن يريد
ولنا المشيئة على الارض

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد