تكشف الرسالة التي بعث بها ستمائة قائد وضابط عسكري إسرائيلي سابق إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عشية استقباله رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ، ما سيبحثه الرجلان، أو ما سيقوم ترامب بعرضه على ضيفه الذي استدعاه، كما لو كان «موظفاً» عنده، وهو قد فعل هذا خلال أقل من عام أكثر من مرة، ورسالة العسكريين الذين ينتمون لحركة تدعى «قادة من أجل أمن إسرائيل»، ينتمون لمختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية، أشارت إلى المرحلة التالية من خطة ترامب لقطاع غزة ، معتبرة أن الوضع الراهن ما زال هشاً، يهدد كلا المرحلتين الأولى والثانية، وأن الوقت ليس في صالح الاستقرار، بمعنى أنه من الضروري التحرك، وعدم الانتظار، حتى لا تعود الحرب مجدداً.
هذه الرسالة لا تشي بما سيبحثه الرجلان وحسب، بل من الواضح أن أصحابها على علم إلى حد بعيد، بموقف الرئيس الأميركي، وأكثر من ذلك هم يدركون مثل غيرهم، أن الرئيس ترامب بات قادراً ليس على التأثير على نتنياهو وحسب، بل وعلى إجباره بما هو مقتنع به، ذلك أن نتنياهو فقد خلال حرب العامين التي بالكاد توقفت عجلتها، كل العالم، وحتى نصف أميركا نفسها، ولم يعد له من حليف سوى ترامب، وأكثر من ذلك باتت طبيعة ترامب نفسه واضحة، بعد مضي أقل من عام على دخوله البيت الأبيض، حيث أقل ما يمكن أن يوصف به بأنه شخصية متقلبة، وصار من الواضح أنه شخصية براغماتية للغاية، تتغير مواقفه وفقاً لحسابات السوق السياسي، أي وفق ما يحيط به من قادة، يذهب إلى من يجد عنده الربح أكثر من غيره.
والحقيقة أن من يتابع ما تنشره الصحف الأميركية من تقارير، تتولد لديه القناعة بأن إدارة ترامب الحالية هي أكثر إدارة أميركية تتبع سياسة شخصية محيطة بالرئيس، أي أن نفوذ مؤسسات الدولة بات أقل كثيراً مما كان عليه دائماً، فالرئيس ترامب، وفق تقارير الصحف الأميركية، يدير الدولة، خاصة على صعيد السياسة الخارجية، عبر رباعي مستشاريه المكون من: ستيف ويتكوف، وجاريد كوشنير، وتوم برّاك، ومسعد فارس، بما همش من نفوذ ليس الكونغرس بلجانه المختلفة وحسب، بل كلاً من وزارتي الخارجية والأمن القومي، والمهم أن آخر تطابق في الموقف بين ترامب ونتنياهو كان في حزيران الماضي، حين تدخل ترامب وشن غارات جوية على إيران، لكنه كان قبل ذلك قد عقد اتفاق وقف إطلاق نار متبادل مع حوثي اليمن، ثم فرض على نتنياهو وقف حرب الإثني عشر يوما مع إيران مقابل شن طائراته الغارات الهائلة على المفاعلات الإيرانية، وحتى أنه سمح لإيران نفسها بالرد «المعنوي» بقصف قاعدة العيديد الأميركية في قطر.
ثم كانت أهم محطة خلاف بينهما، حين فرض وقف الحرب على قطاع غزة، وذلك بعد أن منح نتنياهو تسعة أشهر لمواصلة حرب الإبادة، إلى أن عقد صفقة خطته مع الدول العربية والإسلامية الثماني الأهم، وكان ذلك منعطفاً - بتقديرنا - أظهر أن ترامب لم يعد يتعامل مع الشرق الأوسط من البوابة الإسرائيلية فقط، ورغم أن ترامب سبق له أن شارك في صفقة كانون الثاني العام 2025، التي توقفت عند المرحلة الأولى، ورغم أن نتنياهو على ما يبدو راهن على أن يكرر الأمر ذاته مع خطة العشرين بنداً، إلا أن ترامب بدا مختلفاً مع خطته هذه المرة، وهو يبدي إصراره على تنفيذها بالكامل، وذلك بسعيه للانتقال فوراً للمرحلة التالية بعد أن انتهت المرحلة الأولى منذ أسابيع، وصحيح أنه يواجه مشاكل بهذا الخصوص، سببها بالطبع أن الصراع قد تحول إلى طبيعة الأهداف التي يجب أن تتحقق من خلال متابعة تنفيذ الخطة.
وفي حقيقة الأمر، فإن ترامب وكل من شارك في التوصل لخطة وقف الحرب، كان يدرك منذ إعلان الخطة أنها ستواجه المشاكل الحالية، لأن الخطة لم تكن تفصيلية تماماً، ولأن الجميع كان يعلم أن نتنياهو وحكومته شنا حرب الإبادة لتحقيق هدف التهجير والضم، لذلك فهما لن يتوقفا عنها دون تحقيق ذلك، كذلك فإن ما يدفع ترامب للضغط على نتنياهو، ليس التزامه الأخلاقي كونه صاحب خطة وقف الحرب، بل لأنه أعلن كذلك أن له هدفاً بعيد المدى، هو إحلال الاستقرار في عموم الشرق الأوسط، وذلك لإطلاق مشاريع الاستثمار العالمية، ومنها شق طريق الهند لنقل الطاقة والبضائع الآسيوية لأوروبا، ومفتاح هذه كله إطفاء النار التي أشعلت الشرق الأوسط، أي نار غزة.
وكما أشرنا في مقالنا السابق، فإن عض الأصابع بين «حلفاء ترامب» الشرق أوسطيين، أي إسرائيل من جهة، وكل الآخرين وبالتحديد قطر والسعودية ومصر وتركيا من جهة أخرى، حول مهمة قوة الاستقرار الدولية، ومجلس إدارة غزة، وترامب الذي يرغب جداً في المضي بخطته، يتبع سياسة متحركة وقف محصلة التضاد بين الموقفين الإسرائيلي والعربي/الإسلامي، أي لم يعد يتبنى الموقف الإسرائيلي وحسب، كما كان الحال في السابق، وتكفينا الإشارة هنا، إلى أول موقف كان أعلنه وهو يدخل البيت الأبيض، الخاص بريفيرا الشرق الأوسط، وما بات ترامب ومستشاروه يقولونه اليوم، رغم أن الإسرائيليين لم يتوقفوا تماماً عن تبني فكرة التهجير، بدليل مواصلة التدمير والقتل، لكل هذا فإن شقة الخلاف بين ترامب ونتنياهو تزداد يوما بعد يوم.
وآخر دليل على ما نقول، هو ما أعلنته الصحف الإسرائيلية من ردة فعل ترامب على قيام نتنياهو باغتيال القائد القسامي رائد سعد قبل أيام، حيث نسبت له قيامه بشتم نتنياهو بأقبح الألفاظ، لأنه أدرك بالطبع أن نتنياهو قام بعملية الاغتيال لإجبار حماس على الرد، وبالتالي إسقاط وقف إطلاق النار، وإغلاق الباب أمام الانتقال للمرحلة التالية، والعودة مجدداً للحرب، بل أكثر من ذلك بات المراقبون يقولون إن ترامب لم يعد يصر على مطلب إسرائيل بنزع سلاح حماس بالكامل، بل بات يفكر في الاكتفاء بعدم استخدامه، وهذا الموقف يقترب من موقف سابق لحماس، قال بوضع السلاح الثقيل في المخازن، والموقف نفسه بات يفكر فيه ترامب فيما يخص سلاح حزب الله، أما الملف السوري فإنه يثير حنق ترامب على نتنياهو أكثر من أي ملف آخر، وكل هذا يدفعنا إلى القول، إنه قد لا يطول الوقت كثيراً، حتى يقوم ترامب بإلقاء نتنياهو إلى قارعة الطريق السياسي، بعد أن بات نتنياهو، مجرد ورقة جافة بين يدي الرئيس الأميركي البراغماتي، والذي يواجه ضغوطاً تطالبه بالابتعاد عن المنبوذ الدولي، كما وصفته الصحف الأميركية.
لا بد في هذا السياق من العودة إلى التذكير بالرغبة الأميركية المعلنة منذ وقت طويل، بالانسحاب من الملفات الدولية الشائكة، خاصة من الشرق الأوسط، ذلك أن المنافسة الصينية تضغط على الأميركيين جداً، لذلك هم بحاجة إلى توفير الجهد والوقت والطاقة، وحتى المال، لمواجهة التحدي الصيني، ولا شك بأن التورط في ملفات معقدة يثقل كاهل أميركا على كل الأصعدة، بل أكثر من هذا يرجح المراقبون أن أميركا باتت تفضل التركيز على «حديقتها الخلفية» المتمثلة بأميركا اللاتينية، وإجهاض التحديات التي تظهر في أكثر من دولة هناك، من فنزويلا إلى كولومبيا مروراً بالمكسيك وتشيلي وحتى البرازيل.
كل هذه الاعتبارات لم تغب عن بال «القادة من أجل أمن إسرائيل»، الذين قالوا لترامب إن نزع سلاح حماس هدف ضروري، لكنه يجب أن يتم بشكل تدريجي ومنسق، مع الإشارة إلى أن قدرة الجيش الإسرائيلي على الدفاع يجب أن تكون من داخل الحدود السيادية لدولة إسرائيل، وهذا يعني الانسحاب مما يسمى الخط الأصفر أو المنطقة الأمنية، فيما كان أهم ما تضمنته رسالة القادة العسكريين الإسرائيليين إلى ترامب هو التأكيد على مشاركة السلطة الفلسطينية باعتبارها ضرورية منذ البداية حتى والسلطة بحاجة إلى إصلاح، كما يطالب ترامب ونتنياهو وحتى الأوروبيون.
يمكن القول إذاً، إن لقاء نتنياهو ترامب هذه المرة سيكون مختلفاً عن كل لقاءاته السابقة به، بل قد لا نبالغ لو قلنا، إن مصير ومستقبل نتنياهو متوقف على هذا اللقاء، فهو هذه المرة سيتلقى الأوامر والتعليمات من سيد البيت الأبيض الذي استدعاه ليوبخه وليعيد ترتيبه وفق الاستراتيجية الأميركية للشرق الأوسط، وعلى الأرجح لن يقوى نتنياهو على العصيان، بعد أن باتت حتى مقولة اعتماد حكومته على اليمين المتطرف، ليست صحيحة، فبن غفير وسموتريتش ليس أمامهما بديل أفضل، في حال سقط نتنياهو، وهما لم يقوما بالخروج من الائتلاف الحاكم، بعد وقف إطلاق النار في غزة، دون تحقيق هدف التهجير والضم، ونتنياهو لن يفعل شيئاً، في حال فرض عليه ترامب المضي بالخطة وفق مسار يرضي جميع حلفائه الشرق أوسطيين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية
