رغم أن مشاركة فلسطين في البطولات الإقليمية والدولية ليست جديدة إلا أن مشاركة منتخب فلسطين في كأس العرب هذه المرة بدا مختلفاً، وكأن الفلسطينيين للمرة الأولى يدركون أن لديهم منتخباً وطنياً حاضراً وبقوة.
وقوة حضور المنتخب الوطني أو الفدائي كما يطيب للفلسطينيين أن يطلقوا عليه تمثلت بصعوده لدور الثمانية بعد أداء مبهر في دور المجموعات تمثل بالفوز على قطر والتعادل مع سورية وتونس.
وربما الذي كان لافتاً أكثر هي مباراة تونس التي نجح الفدائي بالعودة والتعادل فيها بعد أن كان متأخراً بهدفين وانتزع وقتها نقطة أثمن من النقاط الثلاث.
حظيت مباريات المنتخب الوطني هذه المرة بتغطية ومتابعة جماهيرية واسعتين. فالفلسطيني أينما كان سواء في الوطن أو الشتات أو الغربة وجد في الفدائي عنواناً يعبر عن رغبته بالحضور، رغبته بأن يظل موجوداً وبقوة رغم كل المعيقات. فالشعب الذي يقتل ويشرد ويعيش جزء منه في الخيام وجزء آخر في مخيمات للاجئين تمتد في دول الجوار، هذا الشعب قادر رغم كل شيء على المنافسة وقادر على أن يثبت أن فلسطين ليست مجرد رقم عابر ولا هي مجرد فريق وهمي، بل هو فريق قادر على أن يحبس أنفاس بطل آسيا المنتخب السعودي لقرابة 120 دقيقة قبل أن يخرج من البطولة بعد أداء مشرف ويليق بفلسطين.
طبعاً كنا نود لو تمكنا من تجاوز الدقائق الخمس الأخيرة وذهبنا لركلات الترجيح. عموماً القصة لم تكن بالفوز إذ لم يكن في وارد الحسبان أن نصعد للنهائي مثلاً ونتجاوز منتخبات لعبت في كأس العالم مرات ومرات مثل المنتخب السعودي أو المنتخب المغربي ومع ذلك ففلسطين قادرة، وما لم يتحقق هذه المرة قد يتحقق المرة القادمة، وما لم ينجز الآن يمكن إنجازه غداً.
لا شيء مستحيلاً بالنسبة للفلسطيني، الذي يعرف أن غيابه هو غاية كل مشروع التصفية والإحلال الذي أطلقته الحركة الصهيونية لسرقة البلاد.
لذلك بدت قدرة وروح المنتخب الوطني القتالية ونضاله المشرف من أجل الفوز تعبيراً مبسطاً وواضحاً عن الروح الفلسطينية وعن الإرادة الفلسطينية التي لا تعرف الاستسلام.
هذه عبارات مفتاحية ومفردات أساسية في وعي الفلسطينيين عن أنفسهم.
والمنتخب الذي تمثل تشكيلته تجسيداً لواقع الحال الفلسطيني قدم لوحة فلسطينية متناغمة حيث كانت كتيبة الفدائي تقاتل ليس من أجل الفوز رغم أهمية ذلك، ولكن من أجل أن تبقى فلسطين حاضرة.
الفدائي يمثل الفلسطينيين ليس فقط بالمعنى الهوياتي بوصفه منتخبهم الوطني ولكن أيضاً يمثلهم من جهة لاعبيه، فهو يضم لاعبين من كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني؛ من القدس إلى غزة إلى الضفة والداخل إلى الشتات والمنفى.
هذه الصورة البانورامية التي يتحد فيها الفلسطيني المقيم في البيرو مع ابن طوباس ويتحد فيها ابن غزة مع ابن سخنين.
وبقدر حقيقة أن المنتخب يمثل خارطة فلسطين التاريخية كاملة فإنه يمثل خارطة الوجود الفلسطيني كاملاً من أميركا اللاتينية إلى أميركا الشمالية فأوروبا فالمنطقة العربية. لذلك فهذا هو منتخبنا.
لسنا «كيس رمل» بعبارة الفريق جبريل الرجوب رئيس الاتحاد.
نعم لسنا كيس رمل ولسنا مجرد فريق يتمنى ويحلم الجميع أن يلعب ضده من أجل حصد النقاط الثلاث، بل فريق قادر على أن يحقق النجاح وأن يقول إننا موجودون رغم كل الظروف.
في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كانت الأندية المحلية تشكل هوية خاصة لسكان المخيمات والبلدات والمدن.
كان فريق نادي خدمات جباليا لكرة الطائرة أفضل فريق في الضفة الغربية وقطاع غزة.
كانت السباعيات التي يتم تنظيمها في ملعب النادي في ليالي الصيف تشكل لحظات فرح لنا.
كنا نلعب ضد الجلزون وبلاطة وكانت المنافسة بحد ذاتها متعة لا تضاهى.
كذلك كان ثمة فرق كرة قدم تلعب في الملعب خلف السوق (ابتلع السوق الملعب الآن) مثل فريق النصر وفريق الطليعة وكانت تلك الأماسي حيث تلعب فرق المخيم المختلفة لحظات ننتظرها بفارغ الصبر.
الآن صار لنا فريق وطني يمثل حلمنا في أن نظل حاضرين، فريق له نجومه الذين سيحبهم أطفالنا ويعلقون صورهم على جدار الغرف ويرسمونهم في دفاترهم المدرسية.
أتذكر فرحة الصديق الراحل الشاعر والمترجم أحمد يعقوب حين حصل على شريحة جوال فلسطينية، فهو قد حصل لأول مرة، بالنسبة له، على شيء فلسطيني خالص؛ رقم موبايل فلسطيني.
لم يكن أحمد قد حصل على الرقم الوطني بعد، لذا فإن مجرد حصوله على رقم فلسطيني حتى لو كان رقم جوال بدا أمراً مفرحاً ومدعاة للشعور بالزهو الوطني. القصة ليست قصة رقم موبايل بل قصة شيء خاص بفلسطين.
إنه نفس الشعور الذي ينتاب الفلسطيني حين يشاهد منتخبه الوطني حاضراً في المنافسات الدولية والإقليمية.
القصة ليست قصة كرة قدم، فالفلسطيني ينظر لكل شيء من منظور فلسطين.
يرى العالم من تلسكوب فلسطيني خالص.
كل مباراة كانت تعني قتالاً فلسطينياً من أجل البقاء؛ قتالاً من أجل إدخال القليل من الفرح على من يسكنون الخيام أو أولئك المحرومين من الصلاة في المسجد الأقصى أو المشاركة في أعياد الميلاد، القليل من الفرح للأسرى في زنازين التعذيب والقليل من الفرح للأمهات اللاتي تحرمهن الغربة من لقاء الأحفاد.
نريد المزيد من هذه الفرحة والمزيد من هذا الأمل. إن حضور فلسطين في مسابقة كرة قدم أو في منافسة أدبية أو فنية أو جمالية ليس مجرد حضور بل هو نفي للغياب الذي أريد رمينا فيه ونسياننا هناك في ممالكه التي لا يتذكرها أحد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية
