مع اتساع الفضاء الرقمي والدخول في عصر ما بعد الحداثة، بدا واضحاً أن الرسائل الإعلامية لم تعد تُستقبل كمعطيات منفصلة، وإنما كخبرات تبحث عن مسار كي تُفهم. فالجمهور الذي يعيش داخل بيئة مكتظة بالمحتوى لا يكفيه أن يتلقى معلومة دقيقة، فهو بجانب ذلك يحتاج إلى بناء يسمح له بمتابعة الفكرة وهي تتحرك، وهكذا حجز السرد مكانه في الواجهة، لا كقالب أدبي، بل كأداة تنظيم تمنح الرسالة قدرة على العبور وسط الضجيج المتزايد، فقد أضحت القصة وسيلة تمنح المعلومة مساراً يمكن تتبعه، وتمنح الفكرة حياة أبعد من زمن بثها.

وحين نتابع سلوك المتلقي اليوم، نلاحظ أنه يميل إلى ما يمكن وضعه داخل تسلسل؛ إذ يسعى عقله إلى جمع الوقائع داخل خط واحد يربط بين البداية والنتيجة. ولذلك تبرز قوة السرد، لأنه يقدم هذا الخط بطريقة طبيعية، ويمكِّن الفكرة من التقدم خطوة تلو أخرى، بينما تزداد سلاسة الانتقال بين الجمل، وما إن يبدأ هذا التسلسل بالعمل، حتى يتحول النص إلى حركة داخلية لا يشعر القارئ خلالها بانقطاع مفاجئ، بل يمر من فكرة إلى أخرى كما لو كانت امتداداً لما قبلها.

هذا التحول الذي ظهرت آثاره بوضوح في العديد من السياقات، ومنها سياق السردية الفلسطينية، والتي شكلت خلال العامين الأخيرين بشكلٍ خاص مثالاً عملياً لطريقة تفاعل الجمهور مع السرد، ففي كثير من شهادات الناجين أو روايات الميدان، لم تكن قوة الرسالة نابعة من تفاصيل الحدث ذاته -رغم فظاعته- بل من القدرة على ترتيب هذه التفاصيل داخل مسار يوضح تطور التجربة، فحين تُروى لحظة الهروب من قصف ما، لا تتقوقع التجربة في حفرة اعتبارها مجرد نقطة ألم؛ بل تتحول -حين تُبنى سردياً- إلى مشهد يكشف علاقة الإنسان بالحدث وموقعه منه، ويوضح كيف تتغير ملامح الخوف أو الصمود أو الوعي أثناء الانتقال من نقطة إلى أخرى، بحيث يمكن محاكاة حركة الشخص نفسه وتفاعله مع محيطه بطريقة أقرب لتلك التي عايشها على أرض الواقع، وليس كصورة فوتوغرافية جامدة ثنائية الأبعاد.

ولعل ما يجعل هذا النمط ناجحاً هو أن “المرويات المقتضبة” التي ظهرت في تغطية أحداث متعددة خلال الحرب على غزة قد قدمت نموذجاً مكثفاً للسرد الفعال، الذي قد يكون في معظمه مشاهد توثيق قصيرة أو شهادات ميدانية لا تتجاوز بضع جمل، لكنها تحمل حركة داخلية واضحة ومتسلسلة: خطر يقترب، ثم قرار يُتخذ، وموقف يتغير، وأخيراً.. معنى يتشكل.

تلك المشاهد وإن لم تكن قصصاً مكتملة في أغلب الأحيان، لكنها كانت كفيلة بإثبات أن الإنسان يقبض على الفكرة حين تمشي أمامه وتدفعه للسير هو معها، لا حين تُعرض عليه دون سياق، ومع ذلك، فإن قوة السرد قد تُصبح خطراً حين يُستخدم بلا تحقق أو حين يتجاوز حدوده، فالرسالة التي لا تُحسِن ترتيب المعنى قد تُربك تثبيت الحقيقة أيضاً؛ إن لم تُبنَ على وقائع مؤكدة، وهذا مهم وخاصة في القضايا الحساسة التي تتزاحم فيها الروايات وتتنافس السرديات على الشرعية، فالسرد الذي يمنح المشهد قوة تأثير قد يضلل المتلقي إذا غابت عنه الدقة، ولذلك يحتاج الإعلام المعاصر إلى وعي مضاعف يرتكز على استخدام السرد لتعزيز الفهم، لا على استبداله بالعاطفة والانفعال.

وبالنظر إلى توظيف السرد ضمن جوانب خارج صراع الروايات المتنافسة، نجد أن السرد قد أصبح جزءاً من هندسة المعلومة نفسها، فالمؤسسات التعليمية باتت تعرض المفاهيم الصعبة عبر “مسار اكتشاف” يرافق الطالب خطوة بخطوة، ومعها أصبحت المشاريع الثقافية تبني موادها على حكايات تتصاعد تدريجياً لتمنح المتلقي نقطة دخول إنسانية قبل الغوص في الفكرة، بشكل أشبه بحركة تُشعر المتلقي بأن ما يُعرض أمامه يمس حياته أو يشبهها، أما في المحتوى المبني على البيانات ورموز الدلالة، والذي لطالما اتصف بالصلف والجمود، فأضحى اليوم يُقدَّم على شكل مسارات تُرى وتُتابع، متحرراً من قوالب الجداول المتحجرة وبعثرة الأرقام.

هذا التنوع يكشف بالضرورة أن السرد لم يعد مجرد خيار رفاهية أو سجيناً لقوالب الأدب الروائي كما كان في القرون السابقة، بل أصبح جزءاً من بنية الاتصال الحديثة.. متجاوزاً مضمار الاستعراض البلاغي ليصبح طريقة أصيلة لإعادة ترتيب المعلومة، بحيث تصبح قابلة للمحاكاة والاستدعاء في أي وقت متجاوزة بذلك قيود الزمن، لكن ذلك لا يعني إطلاقاً استبدال المعلومة بالقصة، بل وضع المعلومة داخل بناء يمدها بالحياة ويسمح لها بالتحرك، ويوفر للمتلقي فرصة أن يعايشها؛ كي يفهمها بعمق أكبر.

وفي الخلاصة، فإن أي رسالة إعلامية، أياً كان موضوعها أو جمهورها، تصبح أكثر فاعلية حين تُبنى داخل سرد واعٍ، ليس لأن السرد أقوى من الحقيقة نفسها، بل لأنه يمنح الحقيقة جسداً يمكن للمتلقي تتبعه، وعندما نفكر في رسائلنا، وخاصة في سياق صراع الرواية الفلسطينية-الإسرائيلية، يصبح من الضروري أن نتعامل مع السرد بوصفه جزءاً من هندسة الفكرة نفسها، أي أنه الطريقة التي تتحرك بها التفاصيل بديناميكية تدب فيها حياة الخلود، والزاوية التي تدخل منها بنعومة لتستقر أبداً في وجدان المتلقي، والخيط المتين الذي سيمنعها من التفكك والاندثار، فالقصة ليست بديلاً عن الحقيقة، لكنها "حين تُكتب بوعي" قد تكون الطريق الأقصر للوصول إليها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد