لم يكن النزوح يوماً مجرّد حدث عابر في حياة الشعوب التي تُبتلى بالحروب والكوارث، بل هو جرحٌ مفتوح في الذاكرة، وجرحٌ أكثر إيلاماً في جسد النساء. حين يكتب التاريخ عن الحروب، غالباً ما يتوقف عند أرقام الشهداء وصور الدمار، لكنه قلّما يتأمل في صمت النساء، وفي معاناتهن المتراكمة خلف ستائر الخيام. إن مأساة النساء في النزوح القسري ليست مشهداً جانبياً، بل هي لبّ الحكاية، لأنها تكشف الوجه الأكثر قسوة للفقد، والانكسار، والتهميش.
النزوح لا يحدث في لحظة واحدة، إنه انتزاع متدرج للأمان، للذاكرة، وللهوية. تبدأ القصة حين تُجبر العائلة على ترك بيتها تحت وطأة القصف، الخوف أو التهديد. وفي تلك اللحظة تفقد المرأة شيئاً من روحها وهي تغلق باباً قد لا تفتحه أبداً. لكنها لا تتوقف عند ذلك، فالمأساة تواصل التمدد في المخيم، في الغربة، في مواجهة الفقر والبرد والحرمان. النزوح إذن ليس مجرد انتقال جغرافي، بل رحلة شاقة من الانطفاء الداخلي، ومن محاولات متكررة لإعادة تعريف الحياة وسط ظروف غير إنسانية.
أعباء مضاعفة على النساء..
بينما يتوزع الألم على الجميع، يبقى للنساء نصيب مضاعف، فالمرأة النازحة ليست مجرد شخص فقد بيته فقط ، بل هي غالباً الأم، أو الزوجة، أو الابنة التي تتحول فجأة إلى معيلة وحامية وراعية، حين يغيب الرجل بالاستشهاد أو الاعتقال أو الفقد، تصبح المرأة هي خط الدفاع الأول والأخير في آن واحد؛ فهي ليست فقط من تهتم بأطفالها وأفراد أسرتها بل تتحمل مسؤولية تأمين حياتهم في المخيمات وأماكن اللجوء المهترئة ، بلا خدمات صحية كافية أوتعليم لأطفالها ، كما أنها تضطرفي كثير من الأحيان للعمل وتحمل المخاطر لتأمين لقمة العيش لأطفالها .
المعاناة المخفية خلف الخيام
هي التي تؤمّن لقمة الخبز من طحين قليل، هي التي تخترع طرقاً لتدفئة أطفالها في برد الشتاء، وهي التي تتحمل نظرات القلق الصغيرة التي يزرعها الأطفال في عينيها كلما سألوها: "متى نعود؟". وفي مجتمع يقيّد المرأة بأدوار محددة، تتحمل النازحة عبئاً إضافيا ، عبء مواجهة مجتمع لا يمنحها المساحة الكاملة لاتخاذ القرار، وفي الوقت ذاته يلقي على كاهلها مسؤوليات أكبر مما تحتمل.
المأساة الكبرى أن هذه المعاناة غالباً ما تبقى غير مرئية. فالعالم يلتفت إلى أعداد النازحين باعتبارهم كتلة بشرية ضخمة، دون أن يلحظ التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرق بين البقاء والنجاة. النساء النازحات يعانين من مشكلات لا تصل إلى شاشات الأخبار: الافتقار إلى الخصوصية، غياب الخدمات الصحية الأساسية، انعدام الرعاية النفسية، وتعرضهن لمخاطر الاستغلال والعنف.
إنها معاناة صامتة، لأن النساء غالباً لا يجدن منبراً آمنا ليروين قصصهن، أوبسبب خوفهم من الوصمة أو الاستغلال. الحقيقة أن النزوح يضاعف هشاشتهن، ويضعهن في مواجهة تحديات لا تقل خطورة عن القصف ذاته.
فقدان المعيل، جرح مضاعف
من بين أكثر الأوجاع إيلاماً تلك التي تعيشها النساء اللواتي فقدن المعيل. أن تتحول المرأة بين ليلة وضحاها من شريكة إلى وحيدة في مواجهة الحياة، هذا يعني أن تنهار أعمدة الأمان دفعة واحدة فتصبح المسؤولية ثقلاً خانقاً: كيف تؤمن الطعام؟ كيف تحمي أطفالها من البرد والجوع؟ كيف تواجه نظرات الشفقة من الآخرين، وهي في الأصل ترفض أن تُرى كضحية ضعيفة؟
إنها ليست فقط مسؤولية مادية، بل هي جرح نفسي عميق. المرأة التي فقدت المعيل في النزوح تواجه عزلة مضاعفة، وفقداناً ً وألماً مضاعفاً ، وهي في الغالب تُخفي دموعها كي لا تزيد من قلق أطفالها، لكنها تنزف بصمت.
النزوح كتيه وجودي
حين نتأمل في تجارب النساء النازحات، ندرك أن النزوح ليس مجرد حالة مؤقتة، بل هو تيه وجودي.
هو شعور دائم بعدم الانتماء، بعدم الاستقرار، وعدم القدرة على رسم مستقبل واضح.
كثير من النساء يشعرن بأنهن فقدن "الزمن" نفسه ، الأيام تتشابه في الخيمة، الغد لا يحمل جديداً، والماضي صار ذكرى بعيدة يصعب استعادتها.
هذا التيه يتسلل إلى الروح ببطء، فيحوّل المرأة من فاعلة إلى مرهقة، من حالمة إلى باحثة فقط عن البقاء. ومع ذلك، يظل في داخلها خيط رفيع من العناد، من الأمل، من الإصرار على النجاة رغم كل شيء.
المرأة حارسة الحياة وسط الخراب
بالرغم من حجم المعاناة، تبقى النساء قادرات على صناعة الحياة من العدم ، حيث نرى في كل مخيم نزوح نساءً يحاولن تحويل الخيام إلى منازل، ينسجن من القماش البالي ستائر تمنح أطفالهن شعوراً بالخصوصية، يخترعن ألعاباً بسيطة كي يضحك الأطفال ولو للحظة.
إنهن حارسات الحياة وسط الخراب، يرفضن الاستسلام، ويزرعن الأمل في أرض قاحلة. هذه القدرة على الصمود لا تعني أنهن لا يتألمن، بل تعني أنهن يحملن الألم على أكتافهن، ويواصلن السير رغم قسوة الطريق .
إن مأساة النساء في النزوح القسري ليست قدراً لا يُناقش، بل قضية إنسانية تستدعي الاعتراف أولاً، والحلول ثانياً. لا يكفي أن ننظر إلى النساء كضحايا، بل يجب أن نراهن كفاعلات في النجاة، ونمنحهن الدعم الذي يستحقنه وذلك من خلال سياسات تراعي خصوصية احتياجاتهن، وبرامج حماية تعزز أمنهن الجسدي والنفسي، ومحاولة تمكينهن اقتصادياً واجتماعياً كي لا يبقين أسرى للهشاشة.
النزوح جرح غائر في الجسد الإنساني، لكنه بالنسبة للنساء جرح مضاعف. ومن واجبنا، كأفراد ومؤسسات ومجتمعات، أن ننصت لصوتهن، وأن نمنح قصصهن المكانة التي تستحقها في الذاكرة الجماعية.
النزوح القسري يكشف لنا في النهاية هشاشتنا كبشر. لكنه يكشف أيضاً صلابة النساء اللواتي، رغم كل ما فقدنه، يواصلن حماية الحياة من الانطفاء. إن مأساة النساء النازحات ليست مجرد حكاية ألم، بل هي درس في معنى الصمود، في معنى التضحية، وفي معنى الإنسانية.
لكن هذا الدرس لا ينبغي أن يبقى مجرد مادة للتأمل، بل يجب أن يتحول إلى التزام ؛ التزام بالدفاع عن حقوق النساء النازحات، التزام بتوفير الأمان لهن، التزام برؤية معاناتهن لا كظلٍ للحرب، بل كقلبها النابض الأكثر صدقاً.
النزوح حقاً انتزاع بطيء للروح، لكنه أيضاً مرآة تعكس عظمة النساء اللواتي، رغم كل شيء، يواصلن حماية ما تبقى لهن من حياة.
رشا شعيب مطر، متخصصة في قضايا الفقر والفئات الاكثر هشاشة في المجتمعات العربية، مهتمة بقضايا النساء، حاصلة على ماجستير في التنمية المستدامة وبناء المؤسسات من جامعة القدس -أبو ديس.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية
