أزمة العملات الذائبة بغزة... بين عجز السوق وصمت السياسات

أزمة العملات الذائبة بغزة

حلقة جديدة من سلسلة الأزمات التي تعصف بقطاع غزة ، تبرز أزمة "العملات الذائبة" كواحدة من أقسى التحديات التي تواجه سكانه، محولةً النقود إلى مجرد ورق لا قيمة له في كثير من الأحيان. فهذه الأزمة، التي تتجاوز مجرد نقص السيولة لتشمل تلف العملات الورقية وانهيار النظام المصرفي، تخنق حياة أكثر من مليوني إنسان، وتضعهم في مواجهة مباشرة مع شبح الفقر والجوع، ما يدفع للتساؤل: هل نحن أمام تآكل تدريجي لوظيفة النقد، وتحوله من وسيلة تبادل إلى عبء يومي يُثقل كاهل الناس؟

مصارف تحت النار وحصار مالي خانق:

تفاقمت أزمة السيولة النقدية بشكل حاد بعد أن عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى قصف معظم البنوك في القطاع وسرقة مئات الملايين منها، بالتزامن مع فرض قيود مشددة على دخول التدفقات النقدية.

هذه السياسات، التي وصفها خبراء اقتصاديون بأنها "حصار مالي"، حولت المال إلى أداة ضغط، وتركت العائلات في حالة من العجز، مجبرة على الاختيار المرّ بين توفير الطعام أو شراء الدواء.

وتم الكشف عن تفاصيل الأزمة التي أصبحت "من أكثر الأزمات حدّة، فمع إغلاق كافة البنوك وتعطّل معظم أجهزة الصراف الآلي، باتت الأموال محجوزة داخل حسابات المواطنين دون قدرة على سحبها.".

السوق السوداء: الراتب يُبتر والاحتياجات تتكاثر

مع غياب القنوات المصرفية الرسمية، نشأت سوق سوداء للسيولة، حيث ظهر سماسرة يُعرفون بـ "المُكيّشين"، يستغلون حاجة الناس الماسة للنقد.

هؤلاء التجار، الذين يكتنزون السيولة المتوفرة، يفرضون عمولات باهظة تصل إلى50% على المبالغ المراد سحبها، مما يعني أن المواطن الذي يسعى للحصول على راتبه أو مدخراته يفقد جزءًا كبيرًا منها قبل أن تصل إلى يده.

هذا الابتزاز المالي، بالإضافة إلى أزمة خروج الدولار من القطاع، يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي المنهار أصلًا.

العملات الذائبة: حين تفقد النقود قيمتها

دفعت الأزمة السكان إلى الاعتماد بشكل شبه كلي على مدخراتهم النقدية الموجودة خارج النظام المصرفي، والتي تُقدّر بنحو 80% من إجمالي الأوراق المتداولة في القطاع، وفقًا لتقديرات الاقتصادية.

لكن هذه المدخرات لم تكن بمنأى عن آثار الحرب، فالظروف المعيشية القاسية والنزوح المتكرر أدت إلى تلف وتمزق واتساخ كميات هائلة من الأوراق النقدية، خاصة من الإصدارات القديمة.

هذه "العملات الذائبة" أصبحت مرفوضة في معظم التعاملات التجارية، مما يضع عبئًا إضافيًا على كاهل المواطنين الذين يجدون أنفسهم يملكون نقودًا لا يستطيعون إنفاقها.

لقطة الشاشة 2025-07-08 161733.png

المفارقة الأكثر إيلامًا في هذه الأزمة هي الارتفاع الجنوني للأسعار في ظل شح السيولة. فبينما يكافح المواطنون لتأمين قوت يومهم، تتضاعف أسعار السلع الأساسية بشكل مهول، لتصبح بعيدة عن متناول الأغلبية الساحقة.

هذا التضخم غير المبرر يزيد من محنة الناس، ويجعل تلبية أبسط الاحتياجات أمرًا مستحيلًا، مما يدفع الكثيرين إلى حافة المجاعة.

توضح سارة، ربة منزل وأم لثلاثة أطفال، حجم المعاناة قائلة: "كل شيء أصبح باهظ الثمن بشكل لا يُصدق. الأسعار تتصاعد يوميًا، ولا نكاد نشتري ما يكفي لإطعام أطفالنا. حتى لو تمكنا من الحصول على بعض المال، فهو لا يسد رمقًا. نشعر بالعجز والجوع، وهذه المعاناة الخفية لا يراها العالم."

صمت مشارك ومستقبل غامض

في ظل هذه الأزمة المركبة، يبرز صمت السياسات المحلية والدولية عن إيجاد حلول جذرية.

الخبير الاقتصادي محمد أبو جياب، في تصريح لوكالة الأناضول، حذّر من تبعات هذا الوضع الكارثي على كافة مناحي الحياة في غزة.

فمن جيب المواطن إلى دوامة الاقتصاد، تتلاشى العملات وتذوب معها آمال بغد أفضل، لتبقى غزة أسيرة حلقة جديدة من حلقات المعاناة التي لا تنتهي.

من يوقف نزيف النقد في ظل الغياب الرسمي؟!

أزمة العملات الذائبة في غزة لم تعد مجرد خلل فني في تداول النقود أو مشكلة اقتصادية عابرة، بل تحوّلت إلى مؤشر عميق على هشاشة المنظومة المالية والاقتصادية في ظل الحصار، وتآكل دور المؤسسات النقدية.

مع استمرار تدهور قيمة العملة الورقية، وغياب الحلول الرسمية، تزداد المخاوف من دخول القطاع في مرحلة نقديّة مشلولة قد تؤدي إلى اعتماد أوسع على الاقتصاد الموازي، وفقدان الثقة نهائيًا في أدوات الدفع المتاحة.

وفي ظل هذا الصمت السياسي، وغياب أي تدخل فعّال من السلطة أو الجهات الدولية، يبقى المواطن وحده في الواجهة، يواجه العملة التالفة كما يواجه الغلاء والجوع.
فما لم يتم التحرك سريعًا لإيجاد حلول مبتكرة – سواء عبر إدخال سيولة نقدية جديدة، أو إطلاق أدوات دفع إلكتروني آمنة وميسّرة – فإن الأزمة مرشحة للاتساع، وربما التحول إلى انهيار نقدي شامل يعيد غزة إلى زمن المقايضة.

ملاحظة : هذا مخرج عملي لدورة " الصحفيات والقيادة الإعلامية" التي نفذتها مؤسسة بيت الصحافة في الفترة من 22 إلى 30 يونيو 2025

المصدر : وكالة سوا - إسلام أحمد خالد المشهراوي

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد