في بادئ الأمر كان يُنظر إلى شبكات التواصل الاجتماعية على أنها أدوات للتحرّر والتحرير، قد تحوّلت اليوم إلى مساحات إستراتيجية تستخدمها جهات فاعلة مختلفة، بما في ذلك قوى السلطة وحتى المنظمات ''الإرهابية''. وكيف تقوم الخوارزميات بتخصيص المحتوى وتقسيم المجتمع إلى مجموعات معزولة، وتعزيز ثقافة المظهر والصورة وفكرة ''مجتمع المراقبة''، حيث يراقب الأفراد بعضهم البعض، ويقودنا هذا إلى انتقاد كيفية ارتباط القيمة الاجتماعية الآن بالقيمة الرقمية، وغياب ''ثقافة الرقمنة'' التي تحصّن المجتمع من كل هذه المخاطر.
هذه الشبكات الاجتماعية شهدت تاريخيًا تحوّلًا جذريًا في طبيعتها ووظيفتها. ففي بداياتها (حتى حدود 2011) كانت تُعتبر أدوات للتحرّر السياسي والاجتماعي، وآليات لمعارضة النخب، تروّج للحرية وتوسّع من المجال والنقاش العام، تمنح الكلمة للناس العاديين، وتحرّرهم من هيمنة وسائل الإعلام التقليدية. وقد وُصفت الثورات العربية، بأنها "ثورة الفايسبوك". هذه السردية التحرّرية ''كانت تُروّج لها الشركات الرأسمالية من أجل الترويج لحث الناس لاستخدام الشبكات الاجتماعية''.
بعد 2014، تغيّر الوضع جذريًا، مع بروز التنظيمات الإرهابية حيث أصبحت الشبكات الاجتماعية جزءًا من "العملية الإرهابية" فتُستخدم في التمويل، والتجنيد، والاستقطاب وحتى تنفيذ العمليات عبر البث المباشر.. الأمر الذي أدّى إلى تحوّل استراتيجي ودخول "العالم القديم (الدول، الأحزاب، الشركات) إلى "العالم الجديد". فهنا مفارقة بأن أصبحت الشبكات الاجتماعية فضاءً استراتيجيًا، بدلًا من أن تكون مجرد مجال لتحرّر الأفراد والمجموعات.
بعد الألفية الثانية والعشرين أدى تطور الرقمنة الاتصالية إلى ظهور فاعلين جدد في المشهد الإعلامي الفلسطيني. وانتشر مصطلح "الصحافة السريعة الناقلة" المليئة بالأخطاء المهنية التي لا تتوفّر بها الكفاءات الصحفية بالقدر الكافي بالإضافة إلى أن تجربة الأشخاص تركتز على الإنتاج الكمي والفوري والسّبق لتحقيق التنافس المحموم بين المواقع الإلكترونية الإخبارية على المواد الإعلانية لكي تحقق أعلى نسبة من المتابعة وبأي وسيلة لتستقطب الإشهار من قبل المعلنين وهو ما يؤدي إلى إرتكاب الأخطاء المهنية. كذلك انتشرت خطابات الكراهية، وبدأ ذلك مع تعدد المدوّنين ، ثم جاء المؤثرون الذين ينافسون اليوم المثقفين والنخب المجتمعية في التأثير. ونستنتج بانّها هدّدتهم بسبب ظهور النشطاء وسمحت بظهور نوع جديد من المثقفين ينتجون آراءً. كذلك بتنا نلاحظ بأن بعض الأكاديميين استبدلوا إنتاجهم البحثي والفكري بالكتابة على منصات الفايسبوك زد على ذلك انتشار فكرة المناضلين الرقميين ومصطلح الإعلام البديل الذي لم نرى أين هو! لأن السوق الافتراضية فتحت كل الابواب المُشرَّعة أمام الغوغائية الإلكترونية والإندفاعيين.
وعلى خلاف ما كان يُعتقد، لم تساهم شبكات التواصل الاجتماعية في تقوية الروابط الاجتماعية، بل أدّت إلى "تفكك اجتماعي"، وعزل الأفراد. إذ أفرزت مفاهيم مثل ''غرف الصدى'' حيث تنغلق الجماعات على نفسها، وترفض الاختلاف والتنوع الثقافي. وهي في ذلك شبيهة بـ"الجماهير الهستيرية" التي تحدّثت عنها الفيلسوفة الألمانية (حنّة أرندت). وأفرزت أيضا ''فقاعات التصفية''. وهي عبارة عن خوارزميات تُظهر للمستخدم عالمًا يشبهه، فينعزل مرتين: عن العالم وعن المختلفين.
وفي السياق ذاته بتنا نلاحظ بأنّ هذه الشبكات الاجتماعية ساهمت في "هدم المشروع الديمقراطي" في فلسطين وعمّقت الانقسامات ومزّقت النسيج الاجتماعي. كما أنتجت ثقافة جديدة منها "ثقافة الظهور" مثل انتشار خاصية السلفي وهي تعبير عمّا يسمى "بالذاتية الجديدة"، كذلك أصبح الناس يستعرضون حياتهم بنوع من الشفافية المفرطة ويستخدمونها بطرق مزعجة، والترويج للذات وتمثيلها ذاتيًا. وثقافة الصورة والمظهر، إذ يُحكم على الناس من خلال ملفاتهم الشخصية؛ على غرار 'إنستغرام'' القائم على الصورة أين "نرى أكثر مما نفهم". كذلك تزايد ظاهرة الفلاتر في هذه التطبيقات والشبكات والتي تخلق تمثيلًا زائفًا وتخفي الحقيقة، وهي التي أنشأت "مجتمع التمويه".
ونخلص في كل ذلك إلى مفارقة أن الشبكات الاجتماعية التي وُجدت للربط، لكنها تفصل وتخلق حواجز، وتساهم في نشوء مجتمعات وهويات سائلة يعمل فيها الفرد استمرار على تشكيل هويته. كما تسلّلت إلى العلاقات الحميمة (العلاقات العاطفية والصداقة) وأفرزت ثقافة التلصص و"رأسمالية المراقبة" أين تُجمع البيانات لتشكيل الواقع الافتراضي المخصص لكل فرد. وعوض تحرير الفرد، أصبح الجميع يراقب الجميع (عدد اللايكات، الأصدقاء، المشاهدات)، وصار للقيمة الرقمية (followers، likes) وزن اجتماعي، مما يكرّس منطق السوق والرأسمالية، وتحوّلت إلى منصات لسرد الذات إذ صار الناس يسردون حياتهم اليومية، مشاكلهم، وحالاتهم النفسية.
وفي سياق تأثير هذه الشبكات الاجتماعية على السلوك السياسي، إذ تحوّلت إلى فضاء استراتيجي للقوى السياسية، وصارت تُستخدم من قبل الأحزاب والدولة للتلاعب بالرأي العام. كما عمّقت تفكك المجتمع والانقسام السياسي، كما صارت تُستعمل كأداة للرقابة والعقاب، ووسيلة لتوجيه الرأي العام وصناعة الوعي السياسي. ونقول في هذا السياق بأنّ الأنظمة غير الديمقراطية صارت توظّفها لـ"الاستبداد الرقمي".
وبناءا على كل ما تقدّم نؤكد على إطلاق نقاش عام ومؤسسي فلسطيني حول آثار هذه الشبكات، ويجب ترسيخ ثقافة رقمية، وتكوين مواطنين "مستنيرين رقميًا"، قادرين على التمييز بين الأخبار الكاذبة والحقيقية، من خلال التربية الإعلامية والمعلوماتية. يجب أن يكون للمدرسة دور أساسي في تكوين مواطنين رقميين ناقدين، ومن الضروري التفكير في تنظيم الشبكات لا قمعها، لأن المنع ليس حلًا''.
وأخيرا نشير إلى أن "المفارقة الرقمية الفلسطينية": مجتمع مشبع رقميًا في تفاصيل الحياة، لكن مؤسساته متأخرة رقميًا، ولا تفكّر جديًا في التحوّل الرقمي ومآلاته
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية