أظنّني قلت في مقالٍ سابق إنّ دولة الاحتلال مع سقوط سورية في قبضة الولايات المتحدة الأميركية قد ربحت هذه الحرب أو صورتها على الأقل، ليس لأنها حقّقت أهدافها منها، بل لأن هذا السقوط بالذات أطاح بأهمّ عقدة جيوإستراتيجية في «المحور»، وفصله عن بعضه في أهمّ مفصل من مفاصله.
لم يكن الدور السوري في «المحور» مؤثّراً بالمساهمة الميدانية المباشرة، ولم يكن مطلوباً مثل هذا الدور أصلاً، لكن دور سورية، ومنذ سنوات طويلة، وخصوصاً بعد سقوط العراق كان المانع الأساسي لدخول مفهوم «الشرق الأوسط الجديد» بالمعنى «الحديث» لهذا المفهوم حيّز التنفيذ.
وبالمعنى الذي وصلت إليه آليات الصراع في هذه الحرب، فقد كان من وجهة النظر الأميركية التي طرحته في خطة «الممرّ الهندي» الاقتصادي، كان إجبارياً أن تمرّ هذه الخطّة على «الجثّة» السورية لأسباب معروفة.
وكلّ ما هو خارج نطاق هذا الفهم ــ كما أرى ــ أي الوهن السوري، أو «الجثّة» السورية، وهشاشتها لتتحوّل إلى لقمة سائغة تتناهشها القوى الإقليمية، التركية والإسرائيلية تحت المظلّة الأميركية و»الغربية» هو فهم قاصر، بعد أن تمّ حرمان إيران من هذا الموقع الإستراتيجي، والذي كان يؤمّن لها حرّية الحركة والتأثير منها، مروراً بالعراق، فسورية إلى لبنان، ومنهما إلى فلسطين.
أقصد أنّ إيران بالذات فقدت الكثير من عناصر التأثير المباشر على دولة الاحتلال، وهي لم تعد «دولة مواجهة» بالمعنى الذي كانت عليه قبل سقوط النظام في سورية، بل هي تحوّلت إلى دولة استهداف بعد هذا السقوط، وربّما تتحوّل إلى هدف يمكن الاشتباك المباشر معه ليس عَبر الجوّ، وعَبر الصواريخ فقط، وإنّما عَبر البرّ، أيضاً، إذا ما قُدّر لأميركا مدّ «الخطّ الكردي» على استقامته الجغرافية إلى كردستان العراق.
وحتى بالنسبة للهجمات الجوّية فقد أصبحت الطائرات الحربية الإسرائيلية قادرة على ضرب الأهداف الإيرانية بكثافة مضاعفة لعشرات المرّات عَبر الأجواء السورية التي أصبحت متاحة ومستباحة، وبهذا المعنى بالذات، وليس بغيره ربحت دولة الاحتلال هذه الحرب أو صورتها على الأقلّ مع أنّها في الميدان أخفقت في المواجهة مع «حزب الله» اللبناني، وتراجعت أمام قوّاته، وقبلت ببقاء الحزب قويّاً، وقد أعاد بناء نفسه، وتعافى إلى حدّ كبير من أكبر عملية استخبارية عرفتها الحروب الحديثة، ومن هجمات كانت قادرة على هزيمة أكبر جيوش هذا العالم.
بل إنّ قبول دولة الاحتلال بوقف إطلاق النار في لبنان، وفي قطاع غزّة، لم يكن ممكناً إلّا لأنّ أميركا كانت تراهن على «الرزمة القاتلة» التي طبختها لـ»سورية» بالتعاون مع النظام التركي، ومع بعض العرب، وطبعاً مع الدولة العبرية، وأسندت فيها للفصائل المتحوّرة عن «داعش»، أو المؤتلفة معه، أو التي مرّت منه إلى «النصرة» و»القاعدة»، وصولاً إلى «هيئة تحرير الشام» على نفس درجة الإيقاع الأميركي، وعلى مقاس الرؤية الإسرائيلية بالكامل.
هذا لا يلغي طبعاً، ولا يجوز أن يلغي، أنّ لقاء المصالح بين كلّ هذه الأطراف قابل للافتراق عند منعطفات معيّنة من تطوّر الأحداث والوقائع في الداخل السوري.
والنظام الذي تحاول أميركا فرضه في الواقع السوري ما زال مستحيلاً دون التنسيق التام مع تركيا، ونظامها الذي ما زال يرى أنّ الافتراق عن الموقف الأميركي في مسألة أكراد سورية، وشكل «الكيانية» التي يتمّ «إعدادها» ما زال قيد المحاولة المثابرة لتأجيل هذا الافتراق، لكن تركيا تفكّر مليّاً بأن «تسليم» أوراقها كاملة للخطة الأميركية سيعني في نهاية المطاف التحوّل إلى «كومبارس سياسي» كما هو حال «هيئة تحرير الشام» إن أرادت أن تكون واجهة النظام السياسي الجديد في سورية.
دولة الاحتلال لا تهمّها كلّ هذه التفاصيل، وما يهمّها أكثر هو كيف تبقى سورية تحت طائلة الاستباحة، وكيف تكون الدولة العبرية مطلقة الحرّية في ضرب أي محاولة لمقاومة هذه الاستباحة، أو حتى الاحتجاج السياسي الجادّ لها.
الانتصار الأميركي التركي الصهيوني في سورية هو خسارة كبيرة لهذه الحرب منيت بها إيران و»المحور» حتى الآن، ولكنه انتصار نسبي لعدّة أسباب جوهرية كما أرى.
عندما يفترق الموقف التركي عن الموقف الأميركي والصهيوني ستدخل سورية، إمّا في مرحلة الفوضى الشاملة، وهنا تبدأ الولايات المتحدة ودولة الاحتلال بفقد السيطرة، والذهاب إلى المجهول السياسي والميداني، وإمّا إلى إعادة اصطفاف تركيا في «محور جديد» قوامه روسيا وإيران، وإعادة اصطفاف النظام العربي في مساحات محايدة جديدة تفقد أميركا هوامش المناورة، وتفقد دولة الاحتلال استمرار إستراتيجية الاستباحة إلّا بثمن أمني وميداني سيعيد بناء «المحور» في ظروف جيوسياسية جديدة.
يقوم الحوثيون الآن بكلّ شجاعة وإقدام ووعي بمحاولة زعزعة الصورة التي تحاول حكومة «اليمين» الفاشي تسويقها للمجتمع الإسرائيلي، والمقاومة العراقية تعدّ نفسها لمنازلة قادمة ــ كما أرى ــ و»حزب الله» لن يقبل بأقلّ من التزام إسرائيلي حقيقي بتنفيذ القرار 1701، و» حماس » باقية في القطاع ما بعد الصفقة، وإيران ستعيد حساباتها لمرحلة «ما بعد» سورية.
دولة الاحتلال تبدو أنها حققت الاختراق الوحيد وهو الاختراق في سورية الذي حصلت عليه مجاناً في الواقع حين خسرت كل أهدافها في لبنان و غزة باستثناء جرائم القتل والإبادة وباستثناء مهاراتها في التوحش.
سيستحيل على دولة اليمين الفاشي أن تتعايش مع أي تسوية سياسية حتى ولو كانت منقوصة ومقلّصة بالنسبة للحقوق الوطنية الفلسطينية دون أن ينفجر وضعها الداخلي، ودون أن تجد نفسها تدخل في حروب جديدة على الضفة الغربية، وربّما على القطاع نفسه، ودون أن تفتعل المزيد من الأزمات مع لبنان والمقاومة، ودون أن تتحرّش كمرحلة أولى بإيران، ودون أن توجّه ضربات كبيرة إلى اليمن.
والأهمّ سيستحيل عليها «السكوت» عن بدء أيّ شكلٍ من أشكال مقاومة دولة الاحتلال في، وعلى الجولان السوري المحتل دون أن تصطدم بالعالم كلّه، وربّما دون أن تصطدم مع إدارة دونالد ترامب نفسه.
وسيستحيل عليها أن تقوم بكلّ هذا دون أن يتمرّد «اليمين» الفاشي على الواقع الداخلي الذي بدأ بالتمرّد على استمرار الحروب، وعلى بقاء دولته تحت الأهداف المباشرة لهذا «اليمين» الفاشي، وعلى تحويل مستقبل الدولة كلّها إلى لعبة سياسية أو انتخابية.
فقط ثلاثة أو أربعة شهور من هدوء جبهات القتال ستُدخل الدولة العبرية في معمعان هذا الانفجار، ولم يعد هناك من صورٍ قادرة على تحسين الوضع «السياسي والانتخابي» للفاشية، وتم استنفاد كلّ الأوراق، وجاء دور المحاسبة والمحاكمات واللجان، والاتهامات، وتوزيع المسؤوليات عن الخسارات الإستراتيجية التي زلزلت أُسس هذا الكيان في كلّ مناحي الحياة.
ولهذا فإنّ دولة الاحتلال قد ربحت صورة الحرب ولكنّها خسرت أهمّ وأكبر جولة في الصراع، وهي اهتزاز الكيان من أركانه، وتحويل كلّ معركة داخلية أو خارجية إلى حرب وجودية.
سؤال الحرب الوجودية ليس مطروحاً إلّا على دولة الاحتلال من زاوية المصير وهو سؤال خارج السياق التاريخي لمسألة الوجود بالنسبة لشعبنا وشعوب أمّتنا بالمقارنة مع وجودية ومصيرية هذا السؤال في الحالة الإسرائيلية.
وكلّ حربٍ قادمة، أو حروب جديدة ليست سوى إعادة إنتاج، وإعادة تجديد المصير الوجودي لدولة الاحتلال، في حين كلّ حرب أو حروب جديدة ليست سوى إعادة تأكيد انتصار الحقّ الفلسطيني، وبهذا المعنى بالذات نحن ربحنا جولة الصراع، ولكنّنا خسرنا صورة الحرب.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية