كما لو كان فيلماً سينمائياً، مر شريط الأحداث خلال الأسبوع الذي مضى في سورية، وقد بدأ الشريط بخبر بدا عابراً، ثم مفاجئاً، من حيث كونه مباغتاً، حين أعلن عن دخول قوات المعارضة السورية المسلحة مدينة حلب، عاصمة الشمال السوري، ثم وقبل أن تنقشع علامات الدهشة، التي ارتسمت على وجوه المحللين السياسيين، توالى سقوط المدن السورية في يد تلك القوات، كما لو كانت حجارة "دومينو"، ما أن يسقط أحدها حتى يتوالى بسرعة البرق سقوط الأحجار الأخرى، وهكذا لم تمر سوى أيام قليلة، تعد على أصابع اليد الواحدة، حتى كانت قوات المعارضة تدخل العاصمة دمشق، وتعلن بذلك عن سقوط نظام الرئيس بشار الأسد.
هو حدث فارق، ي فتح على العديد من الأسئلة المرتبطة أولاً، بتوقيت وقوع الحدث، ثم بالوقت الذي استغرقه، وثانياً بتوقعات مستقبل سورية من جهة والشرق الأوسط كله من جهة أخرى، وذلك في حقبة ما بعد نظام الأسد، الذي امتد الى أكثر من خمسين سنة، يتقاسم نصفها الأسد الأب، والأسد الابن، وفيما شهدت سنوات حكم الأب استقراراً داخلياً، مترافقاً مع حروب خارجية، كان أهمها بالطبع حرب تشرين 1973، وحرب لبنان بعد ذلك، وصراع داخلي عابر ظهر في حماة، شهدت سنوات حكم الابن، في نصفها الأول استقراراً داخلياً، وهدوءاً خارجياً، لكن النصف الثاني، شهد أسوأ حرب أهلية ببعد اقليمي/دولي، شهدته سورية عبر تاريخها، وكان من نتيجته سقوط نحو نصف مليون قتيل، وتهجير نحو 7 ملايين سوري خارج وطنهم، ودمار شامل، رافقه تقسيم ميداني للأرض السورية، حتى بعد التدخل الروسي عام 2015.
ما يثير التساؤل المهم، هو أن نظام بشار الأسد، كان الوحيد من بين خمسة أنظمة عربية، اجتاحها الربيع العربي عام 2011، الذي لم يسقط فوراً، ولا حتى بعد فترة، كما حدث مع نظامي حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس، ونظامي معمر القذافي في ليبيا وعلى عبد الله صالح في اليمن، حيث سقط الأولان بعد احتجاجات شعبية سلمية، خلال أيام، فيما سقط التاليان بعد حرب أهلية، شاركت فيها دول اقليمية كما كان الحال في اليمن ودول أجنبية كما حدث مع ليبيا، وذلك بعد سنوات من القتال الداخلي، المدعوم الى حد المشاركة المباشرة من جيوش عربية وأجنبية، أما نظام الأسد فلم يسقط، رغم أن المعارضة المسلحة وصلت في يوم ما الى تخوم القصر الجمهوري، حين كانت قد وصلت الى ريف دمشق، وخاضت قتالاً عنيفاً على مشارف العاصمة.
وبقدر ما بدا صمود الأسد بعدم سقوط نظامه غريباً ومفاجئاً، لدرجة أحبطت عزيمة القوى المناهضة لنظامه، خاصة حين حاربت الدنيا كلها تنظيم داعش الذي كان يحتل مناطق شاسعة من سورية والعراق معاً، وبعد سنوات بدا أن الأمر قد استتب للأسد، أي منذ عام 2021، حيث بدأ في العودة الى المنظمات الإقليمية، في مقدمتها الجامعة العربية، وبعد أن أعادت الدول العربية التمثيل الدبلوماسي معه، وبدا أن المعارضة قد اختفت أو تلاشت، إلا من بعض الجيوب في شمال غربي سورية، حيث تدعم تركيا جماعة النصرة والجيش الحر، والشمال الشرقي حيث "قسد" التي تستظل بالوجود العسكري الأميركي، وفيما كان النظام يسيطر على ثلثي الجغرافيا السورية، كانت "قسد" تسيطر على نحو ربعها، فيما القوى الموالية لتركيا تسيطر على 10%.
أي أن سورية حتى بعد أن استتب الأمر الميداني للنظام بقيت مقسمة واقعياً، وذلك بسبب الوجود العسكري الأميركي في الشمال الشرقي حيث النفط السوري، وحيث الحدود المتاخمة للعراق، قرب المنطقة الكردية والوجود العسكري الأميركي الآخر في العراق، وبسبب الوجود العسكري التركي الذي يعبر عن طموح تاريخي تركي بالوصول لمنابع النفط الذي تفتقر له تركيا، وبحجة مطاردة الأكراد المطالبين بالاستقلال في تركيا، والعراق وايران وسورية.
سؤال آخر، يضاف الى السؤال حول كيف سقط نظام الأسد بهذه السرعة، وذلك بعد أن صمد عشر سنوات من الحرب، وبعد ثلاث سنوات أخرى، بدا وكأن الأمر قد استتب لصالحه، مرتبط بالتوقيت الذي وقعت فيه معركة اسقاطه، وهي بلا شك لها علاقة بالحرب الدائرة منذ أكثر من عام في المنطقة، وكان طرفاها المباشران، محور المقاومة من جهة، واسرائيل وأميركا من جهة ثانية، حيث أبلى محور المقاومة بلاء حسناً، فرض على إسرائيل حرب استنزاف طويلة الأمد لم تشهدها من قبل، لم تحقق فيها النصر الخاطف، ولا حتى أهدافها العسكرية والسياسية المعلنة، ولم يقتصر الأمر على صمود حماس وحزب الله وحسب، بل دفعت إسرائيل أثماناً سياسية واقتصادية وحتى بشرية باهظة، على كل الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية، وكان منها الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية، وتكفي الإشارة هنا، الى أن الداخل الإسرائيلي قد تعرض لأول مرة الى أن يكون ساحة قتال، مع تهجير نحو نصف مليون إسرائيلي، ولجوء 4 ملايين للملاجئ عند إطلاق صافرات الإنذار.
لم يشكل بالطبع نظام الأسد جبهة إسناد، كما كان حال اليمن والعراق ولبنان، وحتى إيران، ورغم ذلك تعرض الى سلسلة متواصلة من الغارات الجوية الإسرائيلية، وكان يعد جزءا من محور المقاومة، الذي تسعى اسرائيل منذ العام 2011 لإسقاطه، وخير دليل على ذلك ليس فقط زيارة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عام 2014 لجرحى المعارضة السورية الذين لجؤوا الى مستشفى نهاريا الإسرائيلية وحسب، بل إن إسرائيل واصلت النفخ في النار السورية، بعد أن هدأت ما بين عامي 2021_2024، رغم الوجود العسكري الروسي، والذي تمت قراءة صمته على ذلك بوجود توافق روسي/اسرائيلي، مقابل عدم انضمام اسرائيل لحلف الناتو في دعمه لأوكرانيا.
لا بد من القول، بأن صمود نظام الأسد في وجه المعارضة المسلحة السورية، وعدم سقوطه حين اقتربت من دمشق، يعود فيه الفضل الى حزب الله وايران اولا، اللذين قاتلا معه، ثم الى روسيا، التي ساعدته في فرض سيطرته على أكثر من ثلثي الجغرافيا السورية فيما بعد، لهذا فإن السقوط السريع اليوم للنظام، يثير التساؤل المهم جداً الثاني، وهو لماذا لم تفعل تلك القوات، سواء كانت الإيرانية أو حزب الله من جهة، أو القوات الروسية شيئا، للحفاظ عليه، وتركته يسقط هكذا، وهي حتى لم تحاول أن تتدخل كما فعلت طوال السنوات الماضية، وهنا يمكن القول بأن حزب الله وايران، ربما لم يتدخلا لأن النظام لم يعترف لهما بالجميل لاحقاً، وفضل أن يرتبط بروسيا كونها أكثر ضمانة له من إيران، لكن إيران نفسها كانت أعلنت في اليوم الذي سقطت فيه حلب بيد المعارضة قبل أقل من أسبوع، بأنها لن تسمح بسقوط الأسد، وحتى أن وزير داخلية الأسد، أعلن قبل يوم واحد من سقوط العاصمة، بأنها محصنة دفاعياً، بما أوحى بأن الحرب ستكون طاحنة على العاصمة على الأقل، وحتى الرئيس الأميركي قال قبل أقل من 24 ساعة على سقوط دمشق، بأن الأسد سيسقط خلال أيام، والغريب هو أن سقوط النظام، جاء كما لو كان نتيجة اتفاق إقليمي دولي، فلم تحدث مجابهات لا في حلب ولا حماة ولا حمص ولا دمشق، ولم يسقط قتلى، وكأن العملية كانت عبارة عن تسليم واستلام!
لا تنتهي الأسئلة، لكن أهمها، ما يحاول أن يقرأ ما سيحدث بعد هذا الحدث الجلل، بما يخص مستقبل سورية والشرق الأوسط برمته، فلا شك بأن اسرائيل حققت نصراً عظيماً، رغم أن نظام الأسد لم يفتح عليها جبهة حرب منذ أكثر من 50 سنة، لكن أخطر ما فعله ضدها، هو أن جعل من بلاده ممراً لإمداد إيران حزب الله بالسلاح عبر البر، وهكذا يمكن القول بأن فشل اسرائيل العسكري بعد شهري حرب في جنوب لبنان، قد تحقق باسقاط الأسد، بما يعني بأن اسرائيل تسعى الى محيط أمني، وليس لمناطق أمنية عازلة فقط، مع تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة، ويبدو أنها توافقت في الملف السوري مع تركيا، إضافة لتوافق غير معلن مع روسيا ودول أخرى.
أما أخطر ما يواجه سورية، فهو أن ينتظرها مستقبل يشبه واقع الحال في العراق واليمن وليبيا، وقد أثبتت التجربة حتى في تونس ومصر، بأن سقوط رأس نظام حكم الفرد المستبد لا يعني سقوط النظام نفسه، كما أن نظام حكم الفرد المستبد يغطي كل الدول العربية، الملكية منها بالأخص، والأسوأ هو أن يبقى تقسيم سورية ميدانياً، حتى لو أقيم نظام فدرالي على الشاكلة العراقية، وما يجعل من ذلك الكابوس احتمالاً وارداً جداً، هو وجود القوات العسكرية الأجنبية، الروسية والأميركية والتركية والإيرانية على الأرض السورية، بأكثر مما هو موجود في العراق واليمن.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية