«الرزمة القاتلة» التي «أَفرج» عنها الرئيس الأميركي جو بايدن في حرب الولايات المتحدة ضدّ «حزب الله» اللبناني.

كان من المفروض أن تنتهي تلك الحرب لصالح دولة الاحتلال، بعد أن يتمكّن جيشها من احتلال مفاصل كبيرة وحسّاسة في جنوب لبنان، وهو ما كان يفترض أن يؤدّي بالحالة اللبنانية إلى قبول الشروط الإسرائيلية كاملة بعد «تعديل» القرار 1701، وفق هذا الافتراض.

قلنا في مقال، يوم الإثنين، إنّ الحرب البرّية تحوّلت إلى معركة «إجبارية» بعد فشل «الرزمة»، وبعد أن فهمت الإدارة الأميركية أنّ الحزب قد نجح في العودة إلى حالة عالية من التماسك، والرجوع إلى ساحة المواجهة بقوّة ليس بمقدور جيش الاحتلال أن يدّعي أنّه حقّق انتصاراً عليها بمستوى إرجاع، أو عودة المهجّرين إلى مستوطنات الشمال، أو فرض شروط سياسية على لبنان تغيّر في واقع معادلة الصراع.

تُهرول الإدارة الأميركية الآن إلى الشرق الأوسط بهدف الوصول إلى «حلّ سياسي» سريع على الجبهة الفلسطينية بأسرع وقتٍ ممكن، وإلى اتفاق جديد مع لبنان بسرعة أكبر في ضوء انكشاف الفشل الإسرائيلي في الجنوب.

خلاصة الأمر هنا هي أنّ «الرزمة القاتلة» فيما يتعلّق بالحرب التدميرية في الجنوب بعد فشلها أدت إلى فرض مسلسل نزول دولة الاحتلال عن الشجرة، وأصبحت الأهداف تتقلّص مع فشل كل محاولة من محاولات الاختراق، وأصبح ما تورّط به الوزير يسرائيل كاتس حين دعا إلى «اقتلاع» الحزب من لبنان، وطبعاً من الجنوب، إلى السخرية من هذا الوزير الذي سيحتاج إلى وقت كبير قبل أن يصل إلى مستوى «الهاوي» في الشؤون العسكرية والإستراتيجية.

مع اكتساح الرئيس المنتخب دونالد ترامب للانتخابات في الولايات المتحدة، وتحقيقه لـ»الكبُّوت» في لعبة «الطرنيب» «طار ضبان مخّ» الإدارة الأميركية، وأدركت أنّ هذا الفشل المدوّي للحزب الديمقراطي ستنجم عنه نتائج كبيرة في الحالة الأميركية، ستؤدّي في أغلب الظنّ إلى تسهيل مهمّة الرئيس القادم بالانقضاض على كلّ مفاصل إستراتيجية جماعة العولمة، وأنصار الدور الكوني للولايات المتحدة، وإلى تحوّل الدور الأميركي في الهيمنة الكلية على المستوى الكوني الشامل إلى «إقامة» العظمة الأميركية، وفق الاعتبارات الأميركية الداخلية، لكي يتحوّل الدور الكوني للولايات المتحدة من دورٍ على حسابها إلى دورٍ لحسابها فيما بعد.

أقصد أنّ ترامب من أجل الوصول إلى هدف كهذا، ومن تأمين مسار هذا الوصول سيلجأ إلى إطفاء الحرائق الكبرى التي تستنزف القدرات الأميركية، وخصوصاً في مسألتي تايوان وأوكرانيا، وإلى إعادة وضع الدولة العبرية على مسار «التعايش» مع الإقليم بأقلّ قدر ممكن من التنازلات، وبأعلى درجة ممكنة من تجنّب الاستنزاف وتحقيق المكاسب.

ولهذا بالذات فإنّ ترامب عملياً أعطى لدولة الاحتلال حرّية العمل للشهور القادمة فقط، لأنّ عليها بعد مرور هذه الشهور أن تدرك أنّ «تسوية» ما تصبح حتمية، ولهذا بالذات فإنّ طاقمه الجديد المحسوب على «الصهيونية المسيحية» عموماً سيتولّى «تسويق» هذه الصفقة، وفق اعتبارات الولاء التامّ لدولة الاحتلال من جهة، ووفق اعتبارات القدرة على هذا التسويق من جهة أخرى.

وهذا معناه أنّ على الأخيرة أن تعلن الآن، وليس فيما بعد عن «الأراضي» التي «ستضمّها» سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة ، وأن تحدّد الآن وليس فيما بعد شروطها للتعايش في الإقليم، والتفاهم مع دوله الرئيسة، وترويض هذا الإقليم عن طريق تحديد حجم «التنازلات» التي ستقدّمها بهدف الوصول إلى مثل هذا التعايش.

لا يوجد في الواقع اختلاف جوهري بين «الجمهوري» و»الديمقراطي» فيما يتعلق بالدور الإسرائيلي كهدف، ولا يوجد أيّ اختلاف جوهري فيما يتعلّق بالشروط الواجب توفّرها في الحاضنة الإقليمية لهذا الدور. الاختلاف هو الدور الشرق أوسطي لدولة الاحتلال.

ترامب ليس مهتماً على وجه خاص بدور «المخلب» الإسرائيلي بقدر ما هو مهتمّ بقوة دولة الاحتلال بحدّ ذاتها، لأنّ «الترامبية» هي التي تتولّى بنفسها هذا الدور، والدور الإسرائيلي هنا هو دور مكمّل، في حين أن الحزب الديمقراطي في نسخة بايدن يرى أنّ الدور الإسرائيلي المباشر «كمخلب» هو الذي سيوفّر لها القوة، وأنّه من دون هذا الدور «المخلبي» ستفقد دولة الاحتلال أهميتها الكونية في إستراتيجيات «الغرب»، وتصبح مهمّة «الدفاع عنها» مسألة سياسية أو أخلاقية، وليس مسألة وجودية للمصالح «الغربية»، وقد لا يكون لها نفس الطابع المصيري، أي أنّ الدور الإسرائيلي يكمن في «قوّتها» ولا تكمن قوّتها في دورها حسب مفهوم ترامب، و»المحافظين الجدد» في نسختهم المتصالحة مع تيّار «الصهيونية المسيحية».

هنا تكون «الرزم القاتلة» قد استنفدت دورها في هذا الإقليم، وتكون الحروب قد فقدت بريقها بعد الفشل الإسرائيلي في القدرة على الانتصار، ويصبح «الحلّ التساومي» مرجّحاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وهنا بالضبط ستنشأ فوضى جديدة في الداخل الإسرائيلي، في كيفية التعامل مع ترامب في أوساط «اليمين الجديد» النازي الطابع، و»اليمين» بكلّ أنواعه وأصنافه، وبواقي «الوسط» و»فلول اليسار».

الرزمة التي بقيت بحوزة بايدن، ومن خلفه جماعات العولمة، ومفاصل رئيسة من الدولة العميقة هي رزمة أوكرانيا.

ليس مصادفة أبداً أنّ هذه الأطراف قد أعطت الفرصة للانقلاب الفوري والمباشر على خطط ترامب «بإنهاء» الحرب في أوكرانيا من خلال «السماح» لـفولوديمير زيلينسكي باستخدام الصوارخ الأميركية ضدّ العمق الروسي لكي تنطلق «الرزمة القاتلة الجديدة» ضدّ روسيا بعد أن فشلت الرزمة الأولى التي نعرف الآن فشلها المدوّي عندما راهنت أميركا، ومن خلفها «الغرب» على انهيار الاقتصاد الروسي مباشرة بعد تدخّله في أوكرانيا، وهو التدخّل الذي كانوا ينتظرونه بعد سنوات من استقدامه المخطّط له بكلّ مكرٍ وخِسّة سياسية مفضوحة وسافرة.

الرزمة الجديدة كما يبدو ستعقّد وستصعّب «الحياة» على ترامب، وذلك لأنّ روسيا باتت «مُجبَرة» على ضرب نظام كييف بأشكال جديدة مدمّرة، وقد تلجأ إلى التلويح بما يشكّل في الواقع الميداني حاجزاً أمام القوى الغربية لاستخدام الأراضي الأوكرانية، ولمنع بولندا ورومانيا من استخدام أراضيهما لأيّ قوات من خارج حدودهما، وقد تعمد موسكو في ضوء ذلك إلى حصار نظام كييف في منطقة العاصمة وما حولها، وهو ما سيجعل من إنقاذه أمراً متعذّراً، وستصبح إمكانية تدخّل «الغرب» لإنقاذه هي بمثابة دخول مباشر في الحرب، سيؤدّي إلى صدامٍ مباشرٍ.

عودة «الغرب» وتوريطه في هذا الصراع، وعلى هذه الدرجة من الخطورة هي خطّة الدولة الأميركية العميقة للردّ على «الانتصار» الكاسح الذي حقّقه ترامب، وهي الإستراتيجية التي سيلتحق بها الغرب الأوروبي لأنّ الخوف من الانتقام الروسي أصبح في الواقع على الأبواب، ولأنّ «تخلّي» ترامب عن أوروبا هو بمثابة هزيمة أمام بوتين.

لا يمكن لأحد أن يتكهّن بما تخفيه الأيّام القادمة، لكن الأمر المؤكّد أن تمكين إيران من تخصيب كميات كبيرة من اليورانيوم لصناعة عشرات القنابل والرؤوس النووية بمساعدة روسية هو جزء من الردّ الروسي الذي يسمّيه «الغرب» الانتقام.

وهناك طبعاً مترتّبات كبيرة وخطيرة «للرزمة الجديدة»، والتي ستستحوذ على اهتمامنا، واهتمام غيرنا للكتابة عنها وحولها.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد