شكلت الضربة الإيرانية لإسرائيل تطوراً هاماً في مسار الحروب الدائرة التي تشنها إسرائيل في المنطقة، غير أن جوهر التدخل الإيراني يجب النظر إليه ضمن سعي طهران لتحريك ملفها النووي، وسعيها للوصول لاتفاق يسمح لها بمواصلة جهودها التي باتت أكثر قرباً من ذي قبل من امتلاك سلاح نووي. ورغم أن أحداً لا يعرف إذا ما كانت إسرائيل سترد بقصف المنشآت النووية الإيرانية، وهو ما تفعله تل أبيب بشكل محدود ضمن تفاهمات ما مع واشنطن تجنباً لاندلاع حرب شاملة، إلا إذا قرر الطرفان تسوية الحسابات مع نظام المرشد بشكل نهائي.

عقب توقف الاتفاق بعد انسحاب واشنطن واصلت طهران جهودها في تخصيب اليورانيوم، وصارت أكثر قرباً من الوصول للنسبة التي تسمح بتصنيع الأسلحة النووية. وتخلت عن كل القيود التي كانت مفروضة عليها، فتم تجاوز الكمية التي كان الاتفاق لا يريد لطهران امتلاكها، كما أن نسبة درجة النقاء تم تجاوزها بأضعاف. لكن كل هذا يتم بحذر شديد وفي ظل خوف من ضربة أميركية مفاجئة أو هجوم إسرائيلي مباغت. وفي ظل عدم وضوح الرؤية بشأن مستقبل العلاقة مع الغرب رغم الخطاب الانفتاحي الذي يقدمه الرئيس الجديد، فإن توجه إيران لدخول التصعيد بشكل مباشر ليس إلا جزءاً من تحركها لكسر الجمود الحاصل. خاصة أن موقفها بات أكثر قوةً، إذ إن روسيا باتت مستعدة لتقديم العون والدعم لها في تطوير قدراتها مقابل ما يتم تداوله من أخبار عن تقديم طهران دعماً واضحاً لموسكو في مجال المسيّرات وبعض الأدوات القتالية.

الملف النووي الإيراني لايزال معلقاً منذ سنوات، وبات بحاجة لتحريك منذ توقف المفاوضات بشأنه، خاصة بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق عام 2015 حيث لم يحدث شيء، وظلت طهران رغم جهودها لتطوير قدراتها مكبلة بردات الفعل المحتملة. الآن بالنسبة لطهران حان وقت حسم الأمر بشكل نهائي، فدخولها الحرب حتى لو عبر قصف محدود كرد يمكن تقديمه بأنه مشروع على عملية الاغتيال على أرضها، وعلى اغتيال حليفها الأساسي في بيروت، إلا إنه سي فتح النقاش حول دورها الاستراتيجي ومكانتها في المنطقة، بما في ذلك فرص تطوير قدراتها النووية، كأنها تريد أن تقول: لا يمكن قصف طهران والدخول في حرب معنا لردعنا عن امتلاك سلاح نووي، تعالوا تحدثوا معنا أفضل، والرسالة هنا للغرب، لأن الغرب وفي القلب منه واشنطن هو من يفرض عقوبات ترهق الاقتصاد والوضع في إيران.

إيران في أكثر من مناسبة أبدت استعدادها لحل الأزمة، بل إن الرئيس الإيراني بزشكيان أعرب خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن تطلع بلاده لتسوية الأمر، وهو ما عبّر عنه في كل لقاءاته مع المسؤولين الأوروبيين على هامش ذات الاجتماعات. وفيما قد يرى البعض أن هذا التوق لحل أزمة الملف النووي الإيراني هو جزء من توجهات الرئيس الجديد الذي يتطلع لإنعاش الاقتصاد المنهك من سنوات الحظر والقيود المفروضة على إيران، إلا أن الحقيقة أن إيران تريد أن تدفع ملفها قليلاً للأمام حتى تقترب أكثر من إنجازه. ورغم أن بزكشيان قدم مرافعة تودُّد للولايات المتحدة وللغرب، إلا أنه في جوهر الأمر يريد أن يجتاز حصان الملف النووي «اسكدار» كما يقول المثل ويصبح من الصعب العودة للوراء. والمؤكد أن الأمر في النهاية ليس بيد الرئيس، بل بيد المرشد الأعلى الذي قد يسمح للرئيس بالمناورة والدبلوماسية الليّنة من أجل كسب المزيد من الوقت لإنجاز الحلم النووي.

بالنسبة لإيران فإن موقعها في المنطقة ودورها في صراعاتها يعكس تطلعاتها الإستراتيجية، وهو أمر ليس موضع نقاش بالنسبة لنظام ديني وضع في صلب أهدافه «تصدير» الثورة كنموذج للحكم الإسلامي، وتشجيع البلدان الإسلامية على السير في ركب المرشد الأكبر، بوصف ما يقوم به إحياءً لحكم آل البيت.

ضمن هذا يمكن فهم إصرار إيران على أن تكون طرفاً في الحرب الدائرة، حتى قبل قصفها للمنشآت الإسرائيلية ولبعض المباني، فإن طهران وعبر خطابها وضعت نفسها ضمن الحرب، فهي بكلمات كثيرة تصدر عن قادتها من رجالات الدين أو السياسيين أو قادة الجيش تدعم التنظيمات التي تقاتل في كل الجبهات، سواء في غزة أو لبنان او اليمن، رغم محاولة التنصل أكثر من مرة من أن تكون الصواريخ اليمنية إيرانية الصنع أو المنشأ. ببساطة إيران تريد أن تكون جزءاً مما يحدث لأنها تريد أن تكون جزءاً من المخرَجات.

بالنسبة للغرب قد لا يكون الأمر صعباً او مستحيلاً لكنه سيكون كذلك بالنسبة لترامب لو رجع للبيت الأبيض، غير أنه من غير المتوقع أن تقبل كامالا هاريس بسهولة بخيار القوة الإيرانية. لا أحد يريد لحرب إقليمية شاملة أن تندلع خشية أن تتحول من حرب إقليمية إلى حرب دولية وكونية ولو محدودة. الكل يريد أن يتم احتواء الأمر والتفكير في سبيل نزع الفتيل، وقد يبدو الوضع الذي سبق الحرب أفضل السيناريوهات التي يجب العودة لها، لكنه سيشمل بالضرورة عودة المفاوضات حول الملف النووي الإيراني والسماح لإيران بالتقدم قليلاً في الأمر، لكن أيضاً المشكلة ليست في الغرب بل في واشنطن وتل أبيب.

وفيما يجب انتظار رد الفعل الإسرائيلي على الضربة الإيرانية لأنها بالتأكيد ستكون منسقة بشكل تام مع واشنطن من جهة مستوى الرد والأماكن المستهدفة، في ظل سعي الأخيرة إلى احتواء الأمر خشية اندلاع حرب أوسع، إلا أن المؤكد أن إيران ستكون جزءاً مهماً من مخرَجات الحرب الدائرة في المنطقة، ولا يمكن تسوية الحرب دون الاتفاق معها، كما أن المشروع النووي الإيراني ومستقبله بغض النظر في أي اتجاه سيشهد تحولاً هاماً تسعى طهران من ورائه إلى التقدم نحو امتلاك السلاح النووي.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد