تتوالى الأنباء تِباعاً عن حجم الضربة الإيرانية التي أصابت دولة الاحتلال بالصدمة والذهول.
بخفّة شديدة، واستهتار واستغفال غبيّ سارعت، وسارع بنيامين نتنياهو للحديث عن «فشل» الضربة، وتبرّعت الولايات المتحدة، وأخذت السبق الصحافي بالإعلان عن أنّ هذه الضربة كانت ضئيلة التأثير والأهمية.
لم تمضِ عدّة ساعات على التسرّع والاستغفال حتى بدأت تتوالى الأخبار عن حجم الضربة وتأثيرها، وعن المواقع العسكرية التي تمّ استهدافها، والحبل على الجرّار، وسنرى في غضون عدّة أيّام فقط، أنّ هذه الضربة كانت أكبر بكثير من الإعلانات الإيرانية عنها لأسباب تتعلّق باعتبارات تكتيكية خاصة ستتبيّن لاحقاً.
ما يهمّنا هنا أنّ هذه الضربة والتي سنأتي على السياق الذي جاءت فيه حسمت عدة قضايا كبيرة ومهمة في معادلة الردع، وفي معادلات القوة والتوازن في الإقليم.
لعلّ أهمّ قضية حسمتها هذه الضربة هي أن إيران قادرة، وقد أثبتت ذلك في الواقع العملي الملموس، على ضرب أيّ بقعة في كامل الخارطة التي تتواجد عليها قواعد ومعسكرات وقوات دولة الاحتلال، إضافةً إلى كافة المدن والتجمّعات، وكذلك البُنى الاقتصادية والإنتاجية والمرافق والخدمات، من الناقورة وحتى إيلات، ومن حدود شرق نهر الأردن إلى كامل الساحل، وما بعد الساحل.
وهذا يعني أنّه بقدر ما أنّ دولة الاحتلال قادرة على الوصول إلى العمق الإيراني، فإنّ إيران قادرة، أو باتت قادرة على الوصول إلى عمق الدولة العبرية.
تبقى مسألة القوة التدميرية مجهولة حتى الآن، وذلك لأنه، وبقدر ما نتحدّث عن الأسلحة التقليدية، فإننا نعرف بصورة تقريبية القدرة التدميرية لدولة الاحتلال، ولكننا نجهل حدود هذه القوة لدى الجانب الإيراني حتى الآن.
وأمّا القضية الثانية التي حسمتها الضربة الإيرانية، فهي أنّ التدمير المتبادل ــ في الحرب التقليدية، وبالأسلحة التقليدية ــ ليس في مصلحة دولة الاحتلال، لا من زاوية القوى البشرية، ولا من زاوية التوزيع الجغرافي، ولا من حيث القدرة على التحمُّل في حالة إن تمّ تدمير البُنى التحتية لدى الطرفين.
والقضية الثالثة هو أن إيران قد لا تتمكن من حماية نفسها، وخصوصاً إذا شاركت الولايات المتحدة باستهدافها، ولكن الذي بات مؤكداً الآن هو أن الولايات المتحدة هي بدورها ليست قادرة على حماية دولة الاحتلال كما أثبتت ضربة، أول من أمس، سيّما وأنّ قدرات إيران لم تظهر في مجالات صاروخية ما زالت مجهولة بعد.
باختصار، لا يوجد ميّزات في ميزان القوى جوهرية إلى درجة الاختلال التام، وإنّما النسبي فقط، وبالقدر المعلوم منه، وخارج نطاق الحرب النووية.
ولهذا فإنّ التفوّق «الغربي» الصارخ، المطلق والأساسي يكمن أساساً في امتلاك الدولة الصهيونية للسلاح النووي.
وفي المسألة النووية، أصبحت إيران في وضع يحتّم عليها، وسريعاً، إمّا الإعلان عن أنها تمتلك هذه الأسلحة، وأنّ صواريخها يمكن أن تحمل الرؤوس النووية، أو أن إيران حسمت مسألة «الفتوى» بتحريم السلاح النووي نحو تجاوز هذا التحريم لأسباب موجبة «شرعاً»، وخصوصاً التهديد لأمنها القومي بصورةٍ وجودية.
نعود الآن إلى سياق هذه الضربة، وذلك لأنّ هذا السياق بالذات هو مفتاح فهم اللاحق من تطورات هذا الصراع على هذا المستوى بالذات.
هنا يجب أن نعود مرّة أخرى إلى تحذيرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل عدة أسابيع، والذي حذّر من خلالها بوجود الرئيس السوري بشار الأسد بأن المنطقة مقبلة على تصعيد أمني وعسكري كبير.
قلنا في مقالات سابقة، إنّ ما حذّر منه بوتين لم يكن مجرّد تكهّنات أو أنّه أتى في سياق تحليلات وتوقّعات، وإنّما هو بكل تأكيد في سياق معلومات مؤكّدة حتى يعلنها بهذه الدقة والوضوح والصراحة التامّة.
وبالاستناد إلى هذه الواقعة الحقيقية، وبالاستناد إلى وقائع أخرى مرادفة، ومعزّزة قلنا إنّ الحرب الإجرامية التي شنّتها دولة الاحتلال على قطاع غزة قد وصلت إلى طريقٍ مسدود، وأنّ التدمير الذي قامت به لجعل الحياة مستحيلة فيه، الآن، وفي المستقبل المنظور لا يحلّ المشكلة التي سبقت «الطوفان» ولا المشكلة التي نتجت عنه، ولم يعد أمام دولة الاحتلال وقد نجحت بالقتل والتدمير والإجرام، وكل أشكال الهمجية والتوحُّش أن تعتبر نفسها قد انتصرت في ظل الفشل الفاضح في إنجاز الأهداف المعُلَنة، وهو الأمر الذي يعني أنّ «حسم الصراع»، والذي بات بعد «الطوفان» يعني ويساوي إزالة التهديد الذي يمثّله «حزب الله» اللبناني في هذه المعادلة، والذي بقي ملازماً للحرب الإجرامية على القطاع بحرب فعّالة من الاستنزاف لقوات الاحتلال، وبقي قادراً على الإمساك التامّ بورقة مهجّري الشمال، وبقي قادراً بصورة متزايدة ومتصاعدة على توسيع نطاق سيطرته النارية حتى وصلت في إطار تطوّرات الأحداث إلى مشارف تل أبيب، وتجاوزت شرق وجنوب مدينة حيفا.
هربت القيادة الإسرائيلية من معركة القطاع بما تعنيه من «ضرورة» صفقة التبادل ووقف إطلاق النار، وإنهاء حربها العدوانية، ونقلت ثقل المعركة إلى جنوب لبنان في خطّة محكمة لتوجيه ضربة قاتلة للحزب، على فترات متلاحقة من الصدمات المدوّية، وانطوت على الاغتيالات، ثم التفجيرات لأجهزة «البيجر واللاسلكي»، ثم الضربات الجوية الجنونية، وقتلت وجرحت ما يقارب من 20 ألفا، وهجّرت مئات الآلاف، انتظاراً لانهيار الحزب، وبما يسمح البدء بالحرب العدوانية البرّية «السهلة» بعد هذا الانهيار.
صُدمت دولة الاحتلال، وصُدم العالم كلّه عندما نهض الحزب مثقلاً بجراح كبيرة، متعباً ومنهكاً، نعم، ولكنه لم يُهزم، ولم ينهر، ومصمّم على الاستمرار، ولديه إرادة صلبة في المواجهة.
أي أنّ الحزب كما دلّت الأحداث، وكما أثبتت الوقائع كان صادقاً عندما اعترف بحجم الكارثة التي حلّت به، لكنه خرج معافى في مجال بنيته الأساسية، وفي مجال قدراته العسكرية، أيضاً.
وبالرغم من الانتفاخ والاستنفاخ الذي شعرت به قيادة الفاشية الإسرائيلية جرّاء هذه «النجاحات»، وبالرغم من حالة النشوة المعنوية الكبيرة التي عادت لها، بعد كلّ الإخفاقات في القطاع، وفي جبهة الشمال نفسها، وفي بقاء كل الاستعصاءات التي سبقت هذه «الإنجازات» فقد شعرت أنّ كل ما سبق يساهم فعلاً في ترميم صورتها، ولكنه لا يساهم في حل تلك الاستعصاءات، وباتت الحرب العدوانية تحتاج إلى حرب جديدة فعلاً.
هنا أخذت دولة الاحتلال القرار باغتيال أمين عام الحزب حسن نصر الله، اعتقاداً منها أنّ غيابه سيحقق لها ما كانت تراهن عليه من كل «الإنجازات» السابقة، واعتقاداً منها، أيضاً، أن إيران لا ترغب بالحرب، وليست معنيةً بالصدام مع الدولة العبرية، خصوصاً بعد أن تسلّم الجناح الإصلاحي سدّة الرئاسة الإيرانية، وفي ضوء ما كان يصل دولة الاحتلال من تقارير تدعم التوجّه الإيراني نحو حلول سياسية ودبلوماسية في المنطقة.
أوقعت دولة الاحتلال نفسها في المصيدة/ «الفخّ» الذي كتبنا عنه قبل المقال السابق وعَلِقتْ الآن في الزاوية التي أرادتها إيران، وأرادها الحزب.
بعد اغتيال نصر الله، فهمت إيران أن الطموحات الصهيونية قد تجاوزت كل الحدود، والتهديدات بتغيير «النظام» هي إستراتيجية «الشرق الأوسط الجديد»، و»النظام» يعني القضاء على الحزب، والاستفراد به، للانتقال مباشرة للاستفراد بالدولة السورية، وتدمير كلّ مقوماتها التي بقيت لديها، لتعود من جديد لتهجير أهل القطاع، رغم رفض الدولة المصرية، ثم تهجير مئات الآلاف من الضفة نحو الأردن، دون أن تنتظر أو حتى تنظر إلى المصالح الوطنية الأردنية، تمهيداً للانقضاض على إيران، وليس عقد صفقة معها بعد أن تكون جماعة «أنصار الله» الحوثيين والمقاومة العراقية قد جرّدتا بالكامل من مكامن القوة والبقاء.
وقعت دولة الاحتلال في غمرة الشعور بالنشوة، وفيما وصلت الحالة المعنوية لديها إلى ما هو أبعد من العمى، وأكبر من العجرفة في المصيدة الكبيرة.
إيران أحدثت صدمة مذهلة، وحرّكت منصّات صواريخ عادية، ومنصّات كثيرة للطيران المسيّر، ونقلت الأقمار الصناعية صوراً «مؤكّدة» عن طبيعة الردّ الإيراني، وأنّ توقيت الهجوم لن يكون قبل فجر «اليوم التالي»، وهنا لم تتمكن الدفاعات الجوية من أن تفعل شيئاً لأنّ الفارق الزمني بين 10 دقائق، وبين عدّة ساعات، أخرج عملياً الدفاعات الجوية الأميركية و»الغربية» والإسرائيلية من المعركة، ولم تتمكن من التصدّي لهذه الصواريخ إلّا في حدود «ضئيلة»، ونجحت إيران بأكثر من 200 صاروخ من الأنواع المتطوّرة أن تضرب ما أرادت، وموّهت بعشرات من الصواريخ الصغيرة وتركتها للدفاعات الجوية.
عادت دولة الاحتلال إلى المربّع الأوّل. فإمّا أنها ستخوض الحرب العدوانية البرّية، التي تعرف كلفتها الباهظة، أو الردّ على الضربة الإيرانية، والتي ستعني الحرب التي يصعب عليها تحمّل تبعاتها التدميرية، أو الرجوع إلى القطاع «بخفيّ حُنين» لعقد صفقة هي أصلاً كانت قد هربت منها.
تبخّرت «الإنجازات»، وتلاشت مرحلة التنافخ، وأُعيدت الأسئلة إلى سابق الأجوبة المطلوبة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية