بتعيينها للمقدم إلعاد غورين حاكماً عسكرياً لقطاع غزة تحت مسمى منسق الشؤون الإنسانية يكون قد اتضح المشروع الإسرائيلي قاطعاً الشك بيقين السيناريوهات التي كانت تطرح منذ بداية الحرب. فلا سلطة فلسطينية كما قال نتنياهو ولا قوات دولية أو عربية، هو اليوم التالي للحرب الذي مارست الفصائل أولها حركة حماس إنكار نقاشه وسط مطالبات سياسية وفكرية في محاولة لقطع الطريق، ولكن الفلسطينيين كعادتهم في بدائية قراءة السياسة تنبني أفكارهم على ردود الفعل وليس الفعل.
كان الإسرائيلي خلال فترة الحرب يشاغل «حماس» بالمفاوضات وصفقة أسرى وهدنة، وكانت الحركة تعتقد أن الأمر يمكن أن يتم وتكون النهاية كالنهايات السابقة وتعود لحكم القطاع، دون أن تدرك أبعاد المسألة بأن هناك قراراً إسرائيلياً أميركياً وإلى حد ما عربياً بإنهاء حكمها باعتبار أن استمرارها كقوة حاكمة بات يشكل تهديداً لفكرة المشروع واستقراره. هذه المشاغلة جعلتها طوال الأحد عشر شهراً تتجاهل دعوات البحث في اليوم التالي الذي اتضح أنه إسرائيلي فقط.
كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يقول الأسبوع الماضي، إن «الولايات المتحدة لا تقبل أي احتلال طويل الأمد لغزة»، دون أن تنتبه الأطراف أن هذا يشكل ضوءا أخضر لإسرائيل لاحتلال القطاع. وبالتأكيد لم يكن التصريح من فراغ بل بعد أن تبلور المشروع الذي كان يخفيه نتنياهو مبكراً. ففي البدايات كان يتحدث عن سيطرة أمنية وعسكرية فقط، لكنه تدرج في الخطوات لتجنب ردود فعل دولية ويعمل بنفس الوقت على تهيئة المناخ لمخططه النهائي قبل إعلانه.
ينبغي ملاحظة الانقلاب الذي أحدثه السابع من أكتوبر على صعيد مراكز القوى في المؤسسات الإسرائيلية، حيث كان الجيش ومؤسسات الأمن أصحاب السلطة العليا في قرار الحرب والسلم، لكن الجيش الذي تم طعنه في شرفه في ذلك اليوم فقد تلك القوة ومعه كل مؤسسات الأمن والاستخبارات لتتراجع قوته لصالح المؤسسة السياسية، وتلك فرصة نتنياهو الماكر الذي كان يحاول قبل الحرب الاستيلاء على قرار الدولة فجاءته على طبق من فضة.
مؤسسات الأمن القومي هي من قررت الانسحاب من قطاع غزة ووصلت بها القوة حد إرغام أرئيل شارون صاحب فكرة «نتساريم مثل تل أبيب» على أن يفكك نتساريم بيده. ولكن بالعودة للتاريخ ماذا حصل حينها؟ الذي جرى أن حزب «الليكود» الذي كان يتزعمه شارون عارض الانسحاب ما دفع شارون للخروج من «الليكود» وتشكيل حزب «كاديما» لإتمام الأمر. أي أن حزب «الليكود» الذي تسلمه حينها بنيامين نتنياهو كان معارضاً للانسحاب من غزة. هذا مهم لقراءة اللحظة ولكنه أمام قوة مؤسسات الأمن القومي لم يكن له سوى الإذعان لها وعدم التفكير بالأمر ولكن إذا أضفنا رغبات ودعوات سموتريتش وبن غفير والصهيونية الدينية ومريديها الذين عقدوا بداية الحرب مؤتمرا للعودة لاحتلال غزة والاستيطان فيها هذا يعني أننا أمام أغلبية واضحة في الحكومة مع إعادة الاحتلال والسيطرة على القطاع.
كان نتنياهو الوحيد الذي يعرف ماذا يريد ساخراً من شريكه الأكبر في واشنطن الذي فتح بازار اليوم التالي ومعه خمس دول عربية اجتمعت لتعطي رؤيتها بتجديد السلطة لتتأهل للعودة لغزة، ويبدو بعدها أن تلك الدول أدركت أن نتنياهو يخدعهم كلهم ما أعفاهم من استكمال المهمة الوهمية نظراً لضعف حواملها أمام الإرادة الإسرائيلية وأيضا ساعدتهم السلطة التي لم تتجدد و»حماس» التي لم تعلن موافقتها بتثاقل الفلسطينيين الطبيعي وتأخرهم كالعادة في فهم اللحظة التي لم تترك لهم بسببهم سوى الخيار الإسرائيلي.
بتحطيمها للقطاع لا يبدو أن احتلال اسرائيل هو أسوأ الخيارات. فلتعد اسرائيل وتتحمل مسؤوليتها كدولة احتلال فلم يكن من المنطقي أن تفعل كل ما فعلت وتنتهي الحرب ويتكفل العالم والدول العربية بإزالة ركامها وخرابها، ولتتحمل المسؤولية عن حياة البشر كامل المسؤولية مع وضع أمني مشتبك دائما وعودة للعبء الديمغرافي كخطر وجودي كان من أسباب انسحابها أصلاً من غزة.
مؤسسة الأمن ما زالت تعترض على خطة الحكومة اليمينية لكن بصوت مجروح وخافت قائلة، إن كلفة إدارة القطاع عسكرياً ستصل إلى 20 مليار شيكل سنوياً أي أكثر من خمسة مليارات دولار، وتضيف 400 وظيفة بالجيش وإن إدارة القطاع تعني المسؤولية عن حياة 2,3 مليون شخص وتتطلب 5 فرق عسكرية، طبعاً منذ بداية الحرب يلقي بنيامين نتنياهو بتقديرات الجيش جانباً ويسير باتجاه خطط لا يعرف بها سواه يستلها عندما يكون قد هيأ لها الواقع.
مع معرفتنا برفض نتنياهو قبل عقدين وقيادته لتيار الرافضين للانسحاب من القطاع، لماذا لا يكون ذلك أيضاً رشوة سياسية لثنائي الصهيونية الدينية الذي لم يتوقف عن تقديمها لهما منذ مطلع الحرب حفاظاً على الائتلاف.
ماذا ستقول «حماس» التي تسلمت القطاع خالياً من أي جندي إسرائيلي وتسلمه الآن قد تم احتلاله ويمتلئ بالجنود؟ هل هناك من يراجع التجربة والنتائج أم كالعادة هناك تفسيرات وتبريرات؟ وفي غياب المعايير والقياس، كل شيء ممكن لكن الحقيقة أن اسرائيل تستكمل احتلالها ونحن أمام سنوات نعود فيها بالرحلة من الصفر لكن نبدأها بكل هذا الأسى والحطام .. رحلة الحكم الفلسطيني بدأت من غزة بعد نهاية حكم الحاكم العسكري باتفاق أوسلو .. بدأت من هناك .. وهكذا وصلت نهايتها..!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية