المهم ألاّ تكون الصور صادمة كل مرة يرتكب فيها الجيش الإسرائيلي مذبحة جديدة يصرخ العالم مفزوعاً مندداً بالعدد المهول من الضحايا الذين يوقعهم القصف الإسرائيلي كأنه، أي هذا العالم، نسي أن إسرائيل وجيشها تواصل حربها الشعواء على الشعب الفلسطيني في غزة منذ أكثر من عشرة أشهر بلا توقف.

ولكن على ما يبدو أن العالم بات مقتنعاً وراضياً بمعدل محدد من الضحايا يقتلهم الجيش الإسرائيلي كل يوم، وإذا ما تجاوز هذا الرقم يغضب العالم ويعود لعادته القديمة التي لم يتجاوزها بالتنديد وبأشد العبارات كأن يذّكر إسرائيل بأن عليها ألا تكسر قواعد اللعبة وأن تلتزم بعدم إحداث جلبة وفضائح حين تقتل الفلسطينيين.

فقتل المئات من شأنه أن يوقظ ضمير مواطنيه وبالتالي يتظاهرون مطالبين حكوماتهم بالضغط لوقف الحرب. وهم ليس بيدهم شيء من أجل وقفها ولا يستطيعون أن يمارسوا أي نوع من الضغط على تل أبيب من أجل ذلك.

وعليه فإن زيادة نسبة القتل وارتفاع منسوبه من شأنه أن يحرج الحكومات الغربية أمام شعوبها وعليه وجب عليها أن تهرع لتنتقد ولتدين.

المذبحة البشعة، وكل ما تقوم به إسرائيل بحقنا بشع، في مدرسة التابعين في حي الدرج وسط مدينة غزة استثارت الكثير من ردود الفعل والتنديد من الكثير من القوى الدولية.

العالم كل مرة يصحو على حقيقة يريد أن ينساها أو يتناساها وهي أن ما تقوم به إسرائيل في غزة هو حرب إبادة تهدف من ورائها لقتل الفلسطينيين وتدمير المكان الفلسطيني.

إنه نفس الهدف الذي قامت من أجله وعليه دولة الاحتلال العام 1948.

العالم يتذكر فجأة حين يرى الصورة الصادرة من غزة أن ما يجري هو جريمة حرب ولكنه يعرف أنه لا يستطيع أن يقوم بأي شيء لوقفها، وعليه يصرح ويندد ويطالب بوقف المجازر.

وما إن تهدأ الأخبار وتعود إسرائيل للإيقاع اليومي للحرب بقتل العشرات حتى ينسى العالم وينشغل بتفاصيل أخرى غير مهمة بالنسبة للحرب، لأن الشيء الوحيد المهم هو اتخاذ إجراءات تجبر دولة الاحتلال على وقف الحرب بالقوة. والعالم لا ولن يستخدم القوة في وجه دولة هو يعتبرها فوق القانون.

كأنّ ثمة اتفاقاً صامتاً يقول: تواصل إسرائيل عملياتها في غزة وتقتل كل يوم وتنفذ العمليات التي ترى أنها تقربها من تحقيق أهدافها التي لا يتم الإعلان حقيقة عنها، ولكن لا تفعل ذلك بطريقة مستفزة. فقتل المئات مستفز لمشاعر البشر العاديين ومستفز للأفكار الكبرى والقيم والمثل التي يحملها مواطنو بعض الدول حول الحقوق والحريات والسلام، وخاصة مع تصاعد دور الإعلام الاجتماعي في نقل المعلومات دون تحرير فإن عمليات القتل بالمئات من شأنها أن تستفز تلك المشاعر وهو ما لا ترغبه القوى الكبرى في العالم، من أجل ألا تحرج نفسها أمام مجتمعاتها.

الاتفاق إذاً أن إسرائيل تقتل كل يوم. لا بأس من مذابح صغيرة ومتفرقة حتى لو كانت متقاربة، المهم ألا يتم قتل المئات في نفس المكان.

لا بأس لو قتل العشرات ولا بأس لو تم هدم الأحياء ولا بأس لو تمت تسوية المباني بالتراب، المهم ألا تكون الصور صادمة ولا تجرح مشاعر مواطني العالم. لذلك رأينا العالم يصرخ بعد ظهور الصور المؤلمة للأجساد المفرومة جراء الصواريخ الإسرائيلية على مدرسة التابعين.

العالم الذي يندد خاصة قواه الكبرى لا يبدو جدياً في كل ما يقول عن الحرب لأنه يعترض على عدد الضحايا ولا يقوم باتخاذ أي تدابير لمنع الجرائم التي تحدث.

لذلك فإن إسرائيل تشن حرباً على الرواية الفلسطينية من خلال تكذيب ما يصدر من أرقام وصور من غزة.

لاحظ كيف يحاول الإعلام الإسرائيلي التشكيك بالأرقام التي تصدر من غزة حول عدد الضحايا، وهذه خدعة قديمة تعمل عليها إسرائيل منذ بداية الحرب.

تذكروا كيف تم تكذيب الأرقام الأولى التي صدرت حول عدد الشهداء في شهر الحرب الأول.

يوم أمس قالت إسرائيل إن ما يقوله الفلسطينيون غير دقيق فهي تريد أن تقول للعالم إنها ما زالت تعمل وفق اتفاق الحد الأدنى من الضحايا.

اقتلوهم ولكن لا تقتلوهم مرة واحدة ولا تجعلوا العالم يتألم وهو يرى الدماء لذا اقتلوهم برفق ودون ضوضاء.

الحرب على الرواية الفلسطينية قديم قدم المشروع الصهيوني بحد ذاته. ولا يمكن فهم تطور المشروع الصهيوني وانتقالاته المختلفة من فكرة لحماية مصالح اليهود لسرقة بلاد الفلسطينيين دون فهم استناده بالأساس إلى حرب الرواية وخلق روايات مختلقة ومشوهة ليست حول الفلسطينيين بل حول العالم كله الذي يتم وضعه في كفة ويتم وضع مصالح الصهيونية في كفة مقابلة.

مرة أخرى العالم ليس عادلاً للحد الذي يمكن لنا فيه أن ننتظر منه أن ينصفنا أو يقف إلى جانبنا وأن يقاتل من أجل حماية السلام العالمي، لكنه أيضاً لم يكن أكثر لامبالاة كما هو الحال حين يتعلق الأمر بنا وبحقوقنا وبالجرائم التي ترتكبها دولة الاحتلال بحقنا.

إنه يبدو مهمشاً ويبدو لا علاقة له بالأمر. حتى أنه لا يفكر كيف يمكن أن يمارس ضغوطاً حقيقية على إسرائيل من أجل إجبارها على وقف مذابحها ووقف الحرب.

حتى المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيز عبرت بوضوح عن هذا العجز أمام هول المجازر الإسرائيلية. قالت: فليسامحنا الفلسطينيون على عجزنا الجماعي عن حمايتهم واحترام المعنى الأساسي للقانون الدولي. كما وصفت غزة بأنها أكبر معسكر اعتقال في القرن الحادي والعشرين.

ستهدأ التصريحات وستواصل إسرائيل قتلنا بالعشرات، وكلما تجاوزت هذا التفاهم الضمني سيصرخ العالم وسيغضب وسيلبس قناع الإنسانية ثم سينزعه مرة أخرى لتستمر الحرب لأنه غير قادر على اتخاذ ما يجب من أجل وقفها.

المصدر : وكالة سوا

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد