ليست هناك دولة في العالم، لا اليوم ولا عبر التاريخ، عاشت حياتها كلها في حالة حرب، ليس فقط مع شعب، أو مع دولة واحدة، بل مع شعوب ودول عديدة، كما هو حال إسرائيل، التي ما زالت في حالة حرب منذ قيامها، في العام 1948، وحتى قبله، وإلى اليوم، أي ما يقارب من ثمانين عاماً، وهي كلما عقدت اتفاق سلام مع دولة ما، من الدول العربية خاصة، التي اعتبرت أنها في حالة حرب مع إسرائيل منذ قيامها، وجدت نفسها في حالة حرب مع دولة أو حتى دول أخرى، ربما لم تكن في حالة حرب معها من قبل، وإسرائيل التي حاربت سبعة جيوش عربية، في العام 1948، ولم تتوقف الحرب إلا بعد عقد اتفاقيات هدنة، لا تعني انتهاء حالة الحرب، أي أنها ظلت مع الدول العربية في حالة حرب، خاضت حروباً طاحنة لاحقاً، في الأعوام 1956، 1967، 1973، 1982، 2006.

وليست هناك من دولة مرت بمثل هذه الحالة، فالحروب عادة تنشأ بين الدول، بسبب خلاف حدودي، أو بسبب صراع على تداخل بين القوميات المتجاورة خاصة في المناطق بين الدول، مثل كشمير، التي تعتبر أرضاً هندية، لكن سكانها مسلمون، وهم بذلك يعتبرون ضمن قومية باكستان، أو بسبب صراع المصالح، أو الطموحات الإمبريالية وتضاد أطماع السيطرة، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بين ألمانيا من جهة وكل من بريطانيا وفرنسا من جهة ثانية، ثم وبعد عدة سنوات من الحرب، تضع الحرب أوزارها، باتفاق سلام يحل المشكلة بشكل ما أو بطريقة ما، لكن أن تبقى دولة في حالة حرب طوال حياتها، ومع أكثر من طرف، فهذا أمر يقتصر على إسرائيل، ما يؤكد دون أدنى شك أو ريب أن السبب في ذلك يعود إلى أن إسرائيل ليست دولة طبيعية، وأنها أقيمت من أجل السيطرة، وفرض الإرادة الاستعمارية على شعوب ودول المنطقة.

صحيح أن جذر حالة الصراع في الشرق الأوسط يعود للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذا أمر ليس بجديد، فقد فرض نفسه على أجندة السياسة الدولية طوال ثلاثة عقود، ما بين الحربين العالمية الأولى والثانية، ثم بعد الحرب الثانية مباشرة، حيث كان ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي واحداً من أول الملفات التي طرحت على طاولة الأمم المتحدة، منذ نشأتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بهدف منع تكرار الحرب العالمية، وإحلال الأمن والسلام العالميين، ونجحت في ظل الحرب الباردة بمنع الحرب العالمية الثالثة، رغم أنها لم تمنع حروباً إقليمية عديدة، اندلعت لكنها وجدت حلولاً لها في نهاية الأمر، مثل حرب تحرير الجزائر، وحرب فيتنام، وحروب الاستقلال في إفريقيا، أما في فلسطين، فإن الأمم المتحدة ممثلة للمجتمع الدولي وجدت حلاً وسطاً، لم يكن عادلاً تماماً، لكنه كان "بين بين"، أي بين إرادة القوة الظالمة على الأرض والقوى العظمى، وإرادة العدالة وشعوب المنطقة والواقع التاريخي ووجود الشعب الفلسطيني نفسه على الأرض، فكان قرار التقسيم، الذي قال بدولة لليهود ودولة للعرب الفلسطينيين، تتقاسمان مساحة 27 ألف كم2.

لكن إسرائيل في حربها مع 7 جيوش عربية العام 1948، تجاوزت حدودها، بحيث لم تبق دولة حرب وحسب، بل صارت دولة معتدية ومحتلة لنصف أرض الدولة الفلسطينية، وظلت رغم عقد اتفاقيات الهدنة مع دول الجوار: لبنان، الأردن، مصر وسورية، في حالة حرب، بل مع كل الدول العربية القريبة والبعيدة، وكانت حالة الحرب تتحول إلى حرب ميدانية طاحنة كل عقد تقريباً من السنين، كانت خلالها إسرائيل تحتل أرضاً إضافية من أرض دولة فلسطين ومن أراضي دول الجوار العربي.

ورغم أن حرب العام 1973 فتحت الباب واسعاً لشق طريق السلام، أمام دولة إسرائيل، إلا أنها ظلت دولة القوة العسكرية، التي ترى حياتها فقط مترافقة مع الحرب، وفي ظل الحرب تعيش وتنمو، فيما ترى نهايتها في إحلال السلام في المنطقة، فاتفاقيات كامب ديفيد مع مصر أعادت سيناء لمصر منزوعة بمعظمها من السلاح، حتى سلاح الدفاع، وأخرجت مصر الرسمية من حالة الحرب شكلياً مع إسرائيل، واليوم رغم أن إسرائيل عقدت اتفاقيات سلام مع خمس دولة عربية، هي مصر، الأردن، الإمارات، البحرين والمغرب، إلا أن تلك الاتفاقيات لم تجعل منها دولة طبيعية لا في الشرق الأوسط ولا في نظر شعوب تلك الدول، التي أبقت على اتفاقيات السلام خاصة في مصر، أكبر دولة عربية، في الموقع الرسمي فقط، والسبب يعود إلى أن إسرائيل تقفز عن جذر الصراع الذي يسبب حالة الحرب بسبب عدم التزامها بالقانون الدولي، وبسبب عدم احترامها للآخرين، كحقوق، وكثقافة وكمصالح.

وحقيقة الأمر أن ما بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية، وعلى نحو خاص دول الشرق الأوسط من حالة عداء تتباين بين حالة الحرب كما هو الحال اليوم مع إيران، لبنان، سورية، واليمن وفلسطين بالطبع وربما تركيا، وحالة عدم التطبيع، كما هو حال معظم الدول العربية والإسلامية، التي تتجاوز حتى حدود الشرق الأوسط وصولاً إلى ماليزيا وبنغلاديش وإندونيسيا مروراً بباكستان، وبينهما حالة العداء مع دول مثل الجزائر وتونس وغيرهما، لا يعود إلى التعاطف مع الشعب الفلسطيني فقط، ولا إلى وشائج الأُخوة القومية والدينية بين فلسطين ومحطيها العربي والإسلامي، بل كذلك هناك دوافع المصلحة، فكما أن أميركا وبريطانيا وألمانيا لا تكتفي بدعم وإسناد ومساعدة إسرائيل وهي معتدية ومارقة، وعدوانية، سياسياً ومالياً وحسب، بل تشارك معها في كثير من محطات القتال، كما فعلت حين احتلت القوات الأميركية البريطانية العراق بالنيابة عن إسرائيل وإسقاط نظام صدام، بل وقتله، وهذا ما عبر عنه يسرائيل كاتس وزير خارجية إسرائيل قبل أيام، فإن دول المنطقة لا تقدم الإسناد المقابل لفلسطين وشعبها، وهما ضحية العدوان، والوقوف إلى جانبهما يعتبر تنفيذاً للعدالة والإرادة الدولية.

لكن أطماع إسرائيل التي لا تتوقف عند حدود فلسطين، بل تتجاوزها للسيطرة على كل الشرق الأوسط، أولاً من خلال مواصلة تنفيذ مقولة التفوق العسكري الإسرائيلي على كل دول المنطقة، بصرف النظر عن كون هذه الدول في حالة حرب، أو عقدت اتفاقية السلام معها، ذلك من خلال سعي إسرائيل للسيطرة الاقتصادية، ومنع امتلاك دول المنطقة لأسباب القوة الاقتصادية خاصة من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة، كما تفعل مع إيران في محاولة لمنعها من الحصول على الطاقة النووية لتحديث اقتصادها، وعدم الاكتفاء بالاعتماد على الثروة النفطية الطبيعية.

إسرائيل باختصار لا تكتفي بالجلوس وراء حدودها، وكل العالم اليوم يعرف أن الحل بسيط للغاية، ويكمن في حل الدولتين، أي إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على نصف أرض دولة فلسطين وفق قرار التقسيم، أي الأرض المحتلة العام 1967، لأن ذلك يعني أن إسرائيل توقفت عن الرغبة في التمدد الجغرافي، ومن ثم ترك جيرانها يتقدمون اقتصادياً وحتى عسكرياً، ما دامت القوة اليوم لا تعني فرض السيطرة والاحتلال بالضرورة، وإلا لأعيد تقسيم العالم على الدول العظمى الخمس مجدداً، كما كان الحال أيام الاستعمار خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

لكن إسرائيل أبعد ما تكون عن التحول إلى دولة طبيعية، وهي وقد تفشت فيها حالة التطرف، وسيطرت عليها الأحزاب الفاشية التي باتت تتحكم في تل أبيب من قبل قادة الاستيطان الاستعماري، وهي بذلك ستظل دولة الحرب بامتياز، وهذا يعني أنها مهزومة لا محالة، حتى لو كانت الدولة العظمى الوحيدة في العالم، أي لو كانت هي أميركا وليست الدولة التي تدعهما أميركا، ولكن إلى حين ربما، لأنها تخوض حربها الخاسرة ليس مع شعب فلسطين، على عظمة مقاومته، ولكن مع دول وشعوب الشرق الأوسط بشكل مباشر، حتى لو عقدت الصفقة، وتوقفت الحرب على غزة ، فإسرائيل ستظل في حالة حرب غير مندلعة، أي يمكن أن تندلع في أي لحظة مع كل هذا القوس من لبنان وفلسطين وصولاً إلى إيران، مروراً باليمن وسورية والعراق، وربما تركيا، وما كل ما يروّج له الأميركيون من عدم توسيع رقعة الحرب، إلا "حبة بنادول" خادعة، فإسرائيل لا تقتصر بحربها على فلسطين، رغم أن هذه الحرب تجعل منها دولة في حالة عداء مع العالم بأسره، الذي يطالب بإقامة دولة فلسطين، لكن أطماعها التوسعية لا حدود لها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد