نستطيع الآن أن نقول بكلّ ثقة، إنّ لُغز التصعيد الذي حلّ على المنطقة "فجأة" بات واضحاً، ومحدّداً، ولم يعد لدى الإدارة الأميركية، ولا لدى حكومة الاحتلال ورئيسها، ما تتستّر به أو تخفيه.

اللغز في العاصمة الروسية، والذي كشفه هو الرئيس فلاديمير بوتين، وبالتالي نحن أمام معلومات مؤكّدة، وموثوقة، وعلى لسان رئيس دولة عظمى، ومعروف عنها مقدرتها الاستخبارية الاستثنائية.

من دون موعد رسمي مسبق ومعلن عنه، عقدت قبل حادثة مجدل شمس قمة روسية – سورية حرص من خلالها، وأمام الإعلام، وهذه مسألة نادرة، بوتين على أنْ يؤكد أنّ دواعي هذه القمة، ليست العلاقات السورية ــ التركية، وليست المصالحة بين البلدين، وليست حتى الترتيبات المرتقبة بين الرئيس رجب طيّب أردوغان، والرئيس بشار الأسد!

والشيء الوحيد الذي أكّد عليه بوتين، بصورة لافتة هو "إضافة إلى متانة العلاقات الثنائية" أنّ منطقة الإقليم ستشهد في المرحلة القريبة القادمة تصعيداً كبيراً، وبما يمسّ بالدولة السورية [أرجوكم لاحظوا هنا ملاحظة بوتين]، وبأمن واستقرار كل الإقليم.

لذلك كلّه، فإنّ "الطبخة" قد تمّت أثناء زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، والسبب الجوهري في الانتقالة الأميركية المباغتة لنا، ولمعظم المراقبين والمتابعين، أن نتنياهو أوضح للإدارة الأميركية أنّ "الصفقة" في قطاع غزة ستعني هزيمة إسرائيلية بائنة بينونة كبرى، بصرف النظر عن شرط هنا وشروط هناك، وأن "الصفقة" حتى ولو أنّها مالت لصالح دولة الاحتلال في مسألة هنا وأخرى هناك ستتحوّل إلى سيف مسلّط على رقبتها إذا بقي "محور المقاومة" على حالته، وعلى استعداده، وعلى جاهزيته، أيضاً، لأنّ التلازم والارتباط بين مكوّنات "المحور" وقواه، هو عنوان الانتصار الأكبر لهذا "المحور"، وهو الدليل القاطع على هزيمة دولة الاحتلال.
واستطاع نتنياهو إقناع الولايات المتحدة بأنّ الانسحاب الأميركي من سورية والعراق سيصبح حتمياً، وبلا قيدٍ أو شرط إذا بقي هذا الواقع من التلازم والارتباط، وهو الأمر الذي يعني في نهاية المطاف أنّ الهزيمة لن تكون لدولة الاحتلال فقط، وإنما ستحسب هذه الهزيمة بأنّها هزيمة للولايات المتحدة في المقام الأوّل، إضافة إلى كونها هزيمة كبرى لـ"الغرب" كله، وهي هزيمة ستستتبع تغيرات كبيرة في الواقع الجيوسياسي لكامل الإقليم، من دون أدنى شك، وستؤول الأمور إلى "إهداء" هذا الإقليم إلى كل من روسيا والصين، وستنقلب موازين القوى الدولية رأساً على عقب، خصوصاً أنّ ربح الحرب في أوكرانيا أحد أكبر المستحيلات، والتفوّق الاقتصادي على الصين أصبح خلف الجميع، ولن يعود لـ"الغرب" كلّه في مثل واقع كهذا سوى أن يسلّم دفّة العالم لقوى جديدة، وتوازنات جديدة، ومعادلات جديدة ستكون [نحن الخاسران الأوّل والثاني من هذا الواقع]، ويقصد الولايات المتحدة ودولة الاحتلال.

لا يمكن التحذير الشديد من الامتداد إلى الحرب الكبرى، أو المفتوحة، ثم الحرب الشاملة، والانتقال مباشرةً ومن دون سابق إنذار لتأييد عملية الاغتيال في طهران، ثم في الضاحية الجنوبية من مدينة بيروت، ثم المشاركة بضرب أهداف للمقاومة العراقية، وتبنّي الرواية الإسرائيلية حول حادث مجدل شمس، إلّا إذا كان الأمر برمّته قد انتقل من دائرة تبادل الآراء والأفكار إلى دائرة التخطيط والتنفيذ المباشر.

ومن هنا بالذات، يمكننا فهم وإدراك قمّة الرئيسَين بوتين والأسد، وهنا يمكن إدراك واستيعاب ما قاله بوتين بكل قصدية لإيصال الرسالة.

إذاً بوتين يستند في تصريحاته إلى معلومات ومعطيات، وليس إلى تحليل وتوقعات، وهو أراد أن يوصل برسالة إلى الولايات المتحدة قبل غيرها بأنّ المسّ الأميركي المباشر بالدولة السورية سيغيّر قواعد اللعبة، وسيغيّر الكثير الكثير من "التفاهمات" السابقة، سواء كانت هذه التفاهمات رسمية أو ضمنية.

على كلّ حال بعد الردّ الإيراني، وردّ "حزب الله"، ثم المشاركة المباشرة من قبل المقاومة العراقية، ومن قبل "جماعة أنصار الله" الحوثيين، سنرى ونراقب السلوك الأميركي.

الردّ على ما يبدو لن يكون لا خاطفاً، ولا شكلياً، وأغلب الظنّ أنّه سيكون مدروساً في تدحرجه، وفي مدياته، وفي اختيار أهدافه، وكذلك في طبيعة الأسلحة التي سيتمّ استخدامها.

لن يتمكن أحد في هذا العالم توقع كيف، وإلى أين ستتدحرج عملية الردّ، والردود الإسرائيلية على هذا الردّ، وليس واضحاً بعد الحجم والطريقة، واللحظة التي ستدخل بها الولايات المتحدة طالما أننا نعرف جميعاً أن المسألة لا، ولن تقتصر على الدفاع الجوّي كما حصل أثناء الهجوم الإيراني في نيسان، وطالما أنّ الولايات المتحدة نفسها وعلى لسان رئيسها بايدن نفسه قد منعت دماراً كبيراً كان سيلحق بالدولة العبرية حسب إشارته المباشرة.

لن يقتصر الأمر كما كان الأمر في هجوم إيران السابق، ولن تمتنع دولة الاحتلال عن الردّ، أو أنّها ستقوم بردّ خجول وباهت، كما كان عليه الأمر، ولن تكون المشاركة الأميركية في هذه الجولة الكبيرة من الحرب كما كانت في المرّة السابقة.

هل ست فتح كلّ هذه المروحة الواسعة من الاحتمالات، التي تقترب من دائرة اليقين، المنطقة على حرب أكبر بكثير من مجرّد جولة تصعيدية كبيرة، وتذهب بالتالي إلى ضرب مواقع حساسة وكبيرة على الجانبين؟

وهل سيطال الأمر القواعد الأميركية في كل المنطقة؟

وإذا ما كان ذلك كلّه ممكناً، فما الذي يتبقّى لكي تتحول هذه الجولة التصعيدية الكبيرة إلى حربٍ كبرى، وحربٍ شاملة؟

الإقليم يعيش على حافّة انفجار كبير، والمشكلة، والطّامة الكبرى هو أنّه لو حسمت الولايات المتحدة أمرها منذ عدة شهور، وألزمت القيادة الإسرائيلية الإجرامية عند حدود معينة لأمكن ربما تفادي كلّ هذا الخطر الكبير الذي يحدق بالمنطقة كلّها، لكن الإدارة الأميركية أبت إلّا أن تكون "وفيّة" لمصالح الدولة الصهيونية إلى درجة أن الوقائع في الميدان باتت أكبر من قدرة الولايات المتحدة على تجاهل مفاعيلها على مصالحها ومصالح "الغرب" كلّه.

والسؤال الذي يطرح بعد كلّ هذه التطوّرات: هل كانت الولايات المتحدة منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، وحتى يومنا هذا تخطط للوصول إلى ما وصلنا إليه، أم أنّ الإرباك، وحالة الضياع التي بدت عليها الرئاسة الأميركية كانا السبب في أن نتنياهو أوصل القيادة الأميركية إلى هذا الواقع؟

من السّهل أن نقول إن كل شيء قد أُعدّ بصورةٍ مسبقة، ولكن من الصعب، أيضاً، إغفال حالة الإرباك الأميركية، وضعف وهشاشة قيادتها في هذه المرحلة الحسّاسة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد