ينطلق الحوار الوطني الفلسطيني في بكين برعاية صينية بعد أن تأخر عن موعده الأصلي. وكالعادة، ليس من المؤكد أن ينجم عن هذا الحوار الكثير من التقدم لأن ثمة اعتقادا أن مثل هذه اللقاءات تتم من أجل ذاتها. وفيما لا أريد لهذا أن يبدو تشاؤماً فإن الحقيقة أن مسيرة الحوارات الوطنية السابقة لا تخبرنا بشيء إلا أن هذه اللقاءات تذكرنا أكثر وبقسوة أكبر أننا منقسمون، ليس لأننا ننسى هذه الحقيقة ولكن لأن طبيعة الانقسام باتت أمراً بديهياً وجينياً في حياتنا للدرجة أننا صرنا نعتبرها شيئاً طبيعياً. بمعنى، لم نعد نميز بين آليات عمل نظامنا السياسي المنقسم والمقسم على وحدتين جغرافيتين، واحدة في الضفة الغربية والأخرى في غزة وبين الأمر الواجب في أن يكون مؤسسة سياسية واحدة. وعليه، فحين يتم عقد هذه اللقاءات نتذكر الأمر المؤلم بأن ما نعيشه ليس طبيعياً وأننا بحاجة لتجاوز آلام الانقسام والبحث عن وحدة وطنية حقيقية، لأن الأساس ألا يحدث كل هذا. وعليه، فإن القول، إن شيئاً جدياً لن يحدث ليس تشاؤماً بقدر ما هو توصيف لطبيعة ما يجري من لقاءات صار عمرها الآن ستة عشر عاماً، وهنا أتحدث عن اللقاء الأول بعد الانقلاب المرير الذي جاء بعد انتهاء حرب 2008-2009، حين استضافت القاهرة لقاءً للفصائل للبحث في سبل إنهاء الانقسام. وقد يبدو مثيراً مثلاً أن يتم فحص مواقف الفصائل خلال جولات الحوار الوطني المختلفة التي دارت في عواصم الكرة الأرضية من القاهرة والدوحة وإسطنبول وبيروت وبكين وموسكو والجزائر. هل نسيت عاصمة؟ ربما. أيضاً جل هذه العواصم شهدت أكثر من جولة وبعضها مثل القاهرة والدوحة شهدت عشرات الجولات. ما اقترحه أن مراجعة مواقف الأحزاب الأربعة خلال نقاشات الحوار في القاهرة في ربيع 2008 وما يدور في حوار بكين في صيف 2024 وما بينهما من عشرات الجولات في العواصم المختلفة ستكون صادمة إذ يتعذر أن يجد المرء الكثير من الفروقات أو التقارب في المواقف. لذلك فإن الإحساس الوحيد الذي يتملك المرء هو أننا نتحاور من أجل التحاور ذاته وأن الانقسام يجب أن يظل خالداً.
هل يمكن أن يتغير هذا؟ بالطبع يمكن ولكن أنا من الذين يقولون، إنه انطلاقاً من الحكمة الإلهية «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» فإن أي حوار وطني حقيقي يجب أن ينطلق من تداعٍ وطني ذاتي وليس بدعوة من جهة خارجية مع التقدير لكل الجهات الخارجية ولكل الجهود الهادفة لمساعدتنا في تضميد جراحنا الناجمة عن تطاعننا، ولكن النجاح الحقيقي حين ندرك أننا بحاجة لحوار حقيقي مثمر تكون نتيجته قدرتنا على التفاهم دون الحاجة للوسطاء. لأن فكرة التدخل الخارجي من أجل أن يجلس الأشقاء حول طاولة وحدة تعني شيئاً واحداً أن الأشقاء لا يدركون أهمية أن يجلسوا سوية. وهذا مكمن كل العيوب التي تعتور الحوارات الوطنية. فنحن نذهب لأننا لا نريد للوسيط أن يغضب وبالتالي لا يكون بالنا في كيف ننجح الحوار الوطني بقدر كيف يمكن لنا أن نكسب عنده. وهذا حصل مثلاً في أكثر من حالة ومن جولة حوار حيث يكون الحوار نافعا ومثمرا إذا استطاع أي طرف أن يكسب ود الداعي للحوار ولا يخسر نتيجة ذلك. وأنا لا أريد أن أخوض في بعض التفاصيل الدالة على ذلك لكنها واضحة وضوح شمس تموز الملتهبة هذه الأيام. ما اقترحه بوضوح أن أي حوار يجب أن يكون حين ندرك أننا بحاجة له، وحين ندرك ذلك فإننا سنتداعى دون وسيط للجلوس ولا يهم أين، لأن أماكن تواجد شعبنا فيها قيادات ممثلة لكل التنظيمات وبالتالي فإن جلوسنا سوية لن يحتاج لترتيبات خاصة.
هذا بيت القصيد، أن نعترف أننا بحاجة لنتحاور وأننا بحاجة لوضع حد لكل خلافاتنا على قاعدة لا رابح ولا خاسر في أي حوار. إن المؤلم أن قرابة عشرة أشهر من حرب الإبادة على شعبنا في غزة لم تكن كفيلة لأن ندرك أن المستهدف قضيتنا الوطنية ووجود شعبنا بشكل عام وليس في غزة فقط فالحرب تطال وجودنا، وهي لا تطال البشر فقط بل الحجر والشجر والذاكرة والتاريخ كما المستقبل. لم ندرك ذلك وظللنا ننتظر حتى جاء مشكوراً من يدعونا للجلوس والتباحث في سبل إنهاء الانقسام.
ومع ذلك، ثمة فرصة لإنجاح حوار الصين إذا استطعنا النظر إلى التحديات الحقيقية التي يواجهها شعبنا الآن والتعامل بمرونة مع ما يتطلبه هذا من قرارات شجاعة. أعتقد أن الأمر الأكثر إلحاحاً بالطبع يجب أن يكون الوضع في قطاع غزة وكيف يمكن لنا أن نتفق على آلية لإدارة حياة الناس في القطاع خلال الحرب التي لا يعرف أحد إلى متى ستمتد وتظل هذه الآلية صالحة للمرحلة التي تلي انتهاء الحرب. الشيطان يكمن في التفاصيل والبحث في بعض القضايا التي أفشلت الحوار سابقا سيكون مضيعة للوقت. يجب علينا أن نتفاهم كيف يمكن لنا أن نخفف عن شعبنا آلام ما يجري وندير حياته ونضبط إيقاع الحياة في ظل الفلتان والسرقة والقتل الداخلي التي تجري. ما اقترحه أن هذه الآلية إذا نجحت يمكن لها أن تدفع عبر نظرية التأثير إلى المزيد من التفاهمات بعد ذلك في جواب مختلف وبالتدريج يمكن أن تصلح مدخلاً لإنهاء الانقسام. خلاصة القول، إن الحوار الوطني يجب أن يستجيب لحاجة المواطنين الماسة وليست لتصورات التنظيمات وتطلعاتها ومقاصدها من وراء ذلك. وإذا ما تم هذا فإنه يمكن لحوار بكين أن يكون مدخلاً لبناء جسر حقيقي يسير بحذر فوق وادي الانقسام السحيق.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية