كانت عملية «القاعدة» ضد برجَي التوأم في نيويورك، أشبه بعملية «طوفان الأقصى» من حيث ما أحدثته من صدمة، دفعت الولايات المتحدة الى البدء في شن حرب قاسية ضد أفغانستان التي كانت تؤوي «القاعدة»، وذلك بعد أقل من شهر على الحادي عشر من سبتمبر 2001، لكن الولايات المتحدة كانت قد قادت 30 دولة قبل ذلك بأكثر من عشرة أعوام، لشن حرب على العراق، دون ذنب اقترفه بحقها، ولكن بدافع من تحريض إسرائيلي، تواصل منذ أن حطت الحرب العراقية/الإيرانية رحالها عام 88، فرأت إسرائيل في القوة العسكرية العراقية التي تمرست خلال حرب الثماني سنوات مع إيران خطراً عليها، فجعلت أميركا من حجة احتلال العراق للكويت سبباً في شن الحرب على العراق ثم فرض حصاراً عليه منذ العام 1990 حتى العام 2003، حيث احتلته بالكامل وغيرت نظام الحكم فيه، كما لو كان واحدة من ولاياتها الخمسين.
وتواصلت «العربدة العسكرية» الأميركية تباعاً، ضد صربيا، ثم ضد ليبيا عام 2011، وحتى ضد سورية، وكان واضحاً بأن قدرة أميركا على شن الحروب واحتلال الدول يبدو أمراً سهلاً للغاية، من الناحية السياسية، حيث بدا العالم كله في «جيبها» بلا حول ولا قوة، كما أن حروبها بدت غير مكلفة، فالخصوم أقل عتاداً وعدة، كذلك يفتقرون لإرادة المقاومة، بعد أن تحكمت فيهم أنظمة شمولية ومستبدة، لم تطلق طاقات الشعوب التي هي أقدر بكثير من أنظمتها على مواجهة العدو الخارجي، لكن الأمر فيما يبدو قد تغير الآن، وخلال ولايتَي كل من دونالد ترامب وجو بايدن، الرجلين اللذين تتأرجح أميركا بينهما، وهي تدرك بأنهما كلاهما منتهي الصلاحية، ظهرت أميركا أعجز من أن تشن حروباً على خصوم باتوا يظهرون التحدي بشكل واضح، لها ولنظامها العالمي أحادي القطب الذي دشنته منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار جدار برلين، وتفكك المنظومة الاشتراكية التي كانت فرضت على أميركا نظاماً ثنائي الأقطاب، أكثر توازناً من نظامها الحالي الأحادي.
كانت روسيا/يلتسين في «جيب» أميركا تماماً، في كل ما يتعلق بالسياسة الدولية، فيما خفضت الصين رأسها، وظلت تنمي اقتصادها خلال العقود الثلاثة، دون أن ت فتح عليها أبواباً تهب منها رياح عاتية، فيما انخرطت أميركا  _كما أسلفنا_ وبغباء أو بسبب عنجهية القوة، أو حتى بسبب التأثير الإسرائيلي عليها، بفضل اللوبي اليهودي الانتخابي، والصهيونية المسيحية، في حروب مختلفة، لكن أميركا اليوم لم تعد قادرة على ما كانت قادرة على فعله بسهولة قبل ثلاثة عقود، وفي عهد ترامب، حاول أن «يجر شكل» كوريا الشمالية، لكنه سرعان ما تراجع، فوضع ذيله بين رجليه، وبلع لسانه، وفي ولاية بايدن، سارع الى الانسحاب بشكل فوضوي من أفغانستان، وفتح حرباً لم يجرؤ على إعلان المشاركة الرسمية فيها، مع روسيا، التي واجهت أميركا بتحدٍ كبير، يعيد للأذهان شيئاً من عظمة الاتحاد السوفياتي في كبح جماح الإمبريالية الأميركية.
وحتى إيران اليوم تظهر التحدي لأميركا وإسرائيل معاً، ولعل الحرب الدائرة حالياً منذ تسعة شهور ونصف، قالت أو باحت بالعديد من الحقائق المرتبطة بالتغيرات الدولية والإقليمية، والتي لها علاقة بتراجع قدرة أميركا على السطو على كل مكان في العالم، وقدرة إسرائيل على فرض الهيمنة على كل مكان في الشرق الأوسط، وصحيح أن هذه الحرب أكدت بأن إسرائيل بالنسبة لأميركا ما زالت هي غير تايوان وأوكرانيا، وان العلاقة معها تجاوزت الوظيفة التي أنشئت إسرائيل من أجلها وهي الحفاظ على منابع النفط تحت السيطرة الأميركية، ومنع النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط، او إسقاط الأنظمة المعادية للاستعمار، كما حدث خلال القرن العشرين الماضي، فلم تعد هناك حرب باردة، وأوروبا حليف أميركا التقليدي، صارت تعتمد بعد انتهاء الحرب الباردة على النفط والغاز الروسي أكثر من اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، ويعود السبب بشكل واضح، الى نفوذ اللوبي الصهيوني في الانتخابات الأميركية.
وقد ظهر واضحاً خلال الحرب، كيف يتلاعب بنيامين نتنياهو بجو بايدن، الذي وجد نفسه بين نارين، فهو مرشح الحزب الديمقراطي، الحزب الذي يعتبر ديناميكيا واكثر إنسانية من الحزب الجمهوري، والذي يضم جناحاً يسارياً، منه السيناتور اليهودي بيرني ساندرز، الذي اعلن دعمه أول من أمس لبايدن رغم انه مرشح غير مثالي، فقط لأن البديل هو دونالد ترامب العنصري وصديق الفاشيين الإسرائيليين، الذي خالف تقليد الرؤساء الأميركيين السابقين وتساوق مع أسوأ قرارات الكونغرس بنقله لسفارة بلاده الى القدس المحتلة، ومن قادة الحزب الديمقراطي رشيدة طليب واليزابيث وارن وإلهام عمر، فيما استطلاعات الرأي حول حرب غزة ودعم إسرائيل أظهرت تغيراً مهماً جداً في صفوف الحزب، فيما بقي الجمهوري حزباً متوافقاً مع ارث الاستعمار، وهو يكاد يبدو موحداً تماماً وراء اليميني المتشدد دونالد ترامب.
اما بايدن وهو محسوب على الجناح المعتدل او التقليدي في الحزب الديمقراطي، بل يمكن القول بأنه على يمين الحزب، وأن طبيعته هذه التي لم تجعله يبتعد كثيراً عن الجمهوريين، ولا حتى كنقيض واضح لترامب، كانت أحد أسباب فوزه على ترامب بصعوبة في الانتخابات السابقة، فقد حاول بايدن طوال فترة الحرب أن يكبح جماح نتنياهو، في الوقت الذي هو فيه مضطر للانخراط معه في الحرب، تعبيراً عن حماية اميركا لربيبتها الإسرائيلية، ورغم ان نتنياهو كان قد أثار حنق ترامب حين بعث برسالة تهنئة لبايدن بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية السابقة، إلا ان تفضيل نتنياهو لترامب على بايدن واضح منذ اول يوم لدخول الأخير البيت الأبيض، ثم تعزز هذا الأمر مع خضوع نتنياهو نفسه الى الشركاء الفاشيين العنصريين، الذين لم يرحب بايدن بوجودهم في الحكومة الإسرائيلية.
بل إن نتنياهو وفي الوقت الذي تكمن فيه مصلحته السياسية الشخصية، في استمرار الحرب، فيما تعزيز مكانة بايدن الانتخابية يكمن في وقف الحرب، لوقف استمرار جلوس  اميركا على مقعد العزلة الدولية، وفي استقبال بايدن للتظاهرات المنددة بمشاركته في حرب إبادة جماعية، تلك التظاهرات التي يشارك فيها أعضاء حزبه الديمقراطي أي ناخبيه، تتابعت فصول الخلافات في المواقف بين الرجلين، وكان بايدن يضطر الى بيع الكلام المعتدل نسبياً لناخبيه، وللعالم، فيما الموقف الفعلي هو حماية إسرائيل ومشاركتها الحرب.
ولم يكتف بمد إسرائيل وهي دولة عبارة عن ترسانة عسكرية، بالذخائر والقنابل والسلاح، والخبراء العسكريين، والأقمار الصناعية والمساعدة الاستخباراتية، خاصة ضد قادة ومقاومي حماس ، بل انه سارع الى سد المنافذ أمام ما سماه بتوسيع الحرب، أي منع أطراف المقاومة الإقليمية من إسناد حماس ومشاركتها في مواجهة الحرب الإسرائيلية، أي سعى بايدن طوال الحرب الى مواجهة شركاء حماس، لفتح الباب على مصراعيه لتنفرد إسرائيل بغزة، وهو من أجل ذلك قام بتحريك حاملتَي الطائرات جيرالد فورد ودوايت ايزنهاور، الى شرق المتوسط، لمنع حزب الله من المشاركة في الحرب لجانب حماس، ثم دخل بايدن مع بريطانيا في حرب فعلية ضد الحوثي، لمنعه من إسناد غزة في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية.
واحتاج بايدن فقط من نتنياهو ورقة انتخابية، لم يقدمها له نتنياهو أبداً، لا بشكل مباشر، ولا من خلال إنجاح صفقة تبادل الرهائن بالأسرى وبالحرب نفسها، وحين تأكد بايدن من استحالة أن يجبر نتنياهو على ما يعتقد أنه مفتاح خروجه من دائرة المسرح السياسي، أي صفقة تنتهي بوقف الحرب، يرفضها بن غفير، مارس الضغط على حماس عبر الوسطاء، لتقبل إعلان الاستسلام، وبشكل مباشر حين واصل القول بأن حماس هي من يعطل الصفقة بعد إعلانه مبادرته التي ختمها بقرار من مجلس الأمن، رغم أن نتنياهو لم يقبلها، وظل وما يزال يعلن انه لن يوقف الحرب.
وقد اضطر نتنياهو الى المشاركة في آخر فصول التفاوض حول الصفقة، بشكل غير فعال، ثم بإرسال موفده بشروط أربعة إضافية، تعني تماماً بأن ما يقول به بايدن من صفقة توقف الحرب، هو كلام في الهواء، ثم لم ينتظر نتنياهو يوم لقائه بالكونغرس، بل سارع الى ارتكاب مجزرة المواصي، بحجة استهداف محمد الضيف، ليقفل أبواب ونوافذ التفاوض حول الصفقة، ولا عزاء لبايدن، الذي بات مرشحاً ثقيل العبء حتى على حزبه، الذي يفكر جدياً الآن بتغيره ليس املاً في الفوز بالبيت الأبيض، بل لتقليل الخسائر حتى لا يفوز الجمهوريون بزعامة رئيس عنصري ومتشدد، بأغلبية الكونغرس بغرفتيه، وهكذا قد تدخل أميركا أربع سنوات في طريق غامض، أقل ما يمكن أن يقال فيه، بأنه طريق سيضع حداً لكل أمل لها بالبقاء على عرش النظام العالمي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد