كلما بدأت تباشير التفاؤل تضيء الروح بأن ثمة نهاية متوقعة للحرب، تظهر غيمات التشاؤم لتغطي السماء وتعود الحرب لتستعر مرة أخرى وقد تبدو أكثر ضراوة. في أكثر من مناسبة كنا نعتقد أننا نخطو على العتبة الأولى باتجاه انتهاء الحرب وعقد صفقة توقفها ولو مؤقتاً، غير أننا نكتشف بعد لحظات أن هذا مجرد وهم وأن الحرب مستمرة وأنها أشدة قساوة من ذي قبل، وان كل التفاؤل لم يكن إلا وهماً. شعور عشناه أكثر من مرة، حتى بات من الصواب عدم التفاؤل وعدم متابعة الأخبار حتى لا نتعرض للمزيد من النكسات وعثرات الروح. لذلك فإن النتيجة الوحيدة التي تقابلنا عشية كل مرة نحاول فيها أن نسقي شجرة الحياة بالأمل هي المزيد من الإحباط والشعور بأن الحرب وُجدت لتستمر.
وُجدت لتستمر لأن العدو يريد المزيد منها، لأنه أخرج كل آلاته من أجل تدمير غزة وتقتيل أهلها، لأننا كلنا نعرف أن الهدف الأساس للحرب هو استكمال مشروع النكبة . ألسنا نقول إن النكبة جريمة مستمرة، وهي جريمة مستمرة ليس بمعنى أن آثارها وتبعاتها مستمرة ولم تنته، وهذا صحيح، ولكن بمعنى أيضاً ان الاحتلال يواصل «تنكيب» شعبنا وإعمال المذابح والمجازر والتهجير والاقتلاع بحقه باستمرار. بهذا فإن النكبة لم تنتهِ، وما يجري في غزة كما ما يجري في شمال الضفة الغربية وباقي مناطق فلسطين هو جزء من فعل النكبة المستمر، الفعل الذي قد تختلف تفاصيله لكن جوهره يظل قائماً كما كان وكما وُجد منذ 76 عاماً حين تم البدء بالمخطط التصفوي للوجود الفلسطيني في البلاد. لذلك فإن هذه الحرب ليست مجرد حرب، وهي ليست مجرد ردة فعل ولا هي جزء من معركة آنية، بل هي استكمال لصورة ومخطط أكبر بدأ قديماً. لذلك فإن الاعتقاد بأن نهايتها يمكن أن تكون سهلة ويمكن أن تكون قضية اتفاق، يشكل سوء فهم لطبيعة ما يجري.
فحقيقة ما يجري هي حرب شاملة على المكان وعلى السكان وعلى البشر والحجر وعلى الكائنات الحياة كما على الجماد، وإلى جانب كل ذلك حرب على الزمان والذاكرة والتاريخ والهوية. فلا أحد يفهم لماذا يتم قصف مسرح أو متحف أو مكتبة أو مركز للوثائق إلا ضمن هذا الفهم لطبيعة الحرب. لذلك فإن القصة ليست قصة رهائن ولا قصة ردة فعل، بل قصة أكبر يتم فيها إزالة المكان بشكل كامل. يوم أمس تحدثت بلدية غزة عن أن 35 بالمائة من مباني حي الشجاعية الأكثر اكتظاظاً في المدينة تم هدها بشكل كامل، وهذا لا يعني أن البقية الباقية تصلح للسكن ولكن تمت إزالة 35 بالمائة بشكل فعلي من المكان وتهديم البقية.
كأن الغاية الأساسية من هذه الحرب هي الحرب ذاتها. الحرب من أجل الحرب. يصلح هذا شعاراً لما يقوم به نتنياهو وهو يواصل مجازره بحق شعبنا. فكل ما يريده من هذه الحرب هو أن تستمر وأن تتواصل، فهو لا يرى نهاية للحرب ولا يرى فرصةً من أجل أن تتوقف، وكل ما يفعله هو أن يجد أعذاراً من أجل أن تستمر. الذي يجري حقيقة أن نتنياهو مثلاً يقوم بتوظيف المفاوضات من أجل الهدنة إلى سلاح آخر من أجل استمرار الحرب. فهو يقدم شروطاً جديدة لدفع الطرف الفلسطيني لقول لا، وبالتالي يبدو معذوراً أمام العالم فيما يقوم به من جرائم، لأنه الطرف الذي يريد فيما الآخرون لا يريدون. وحتى حين يجد أن الطرف الفلسطيني يتقدم خطوات للأمام يختلق الشروط التي من شانها أن تدفعه لقول لا، وبالتالي يظل نتنياهو الحمامة التي تريد للهدنة أن تأتي مع غصن الزيتون الذي تحمله، وإذا فشل في ذلك يقوم بالتصعيد العسكري الذي يوقع المذابح كما حصل في خان يونس والشاطئ يوم أمس، وبالتالي يدفع الطرف الآخر للوقوع بالحرج لعله يرفض الصفقة.
الحرب من أجل الحرب بالطبع ليست محاولة عبثية من اجل إطالة الحرب، بمعنى أن هذا لا يعني أن الحرب بلا هدف، بل بالعكس هي تعني أن غاية الحرب هي القتال فقط وبالتالي الإجهاز على كل مقومات العدو، وفي هذه الحالة فإن ما يرغب به نتنياهو هو أن يتم إزالة غزة كفكرة عن خارطة الوعي النضالي الوطني من خلال جعل أي عملية عودة للقتال في المستقبل مرهقة ومؤلمة بالنسبة للفلسطينيين، وهذا لا يتم إلا من خلال تدمير المكان بشكل كامل ومسحه عن الوجود وجعل عملية إعادة البناء عملية مرهقة ومكلفة، وبالتالي إيقاع أقسى الألم بالناس من أجل لسع وعيهم ودفعهم للتفكير جيداً في مراحل الصراع المستقبلية. طبعاً هذه سياسة تم تجريبها سابقاً خلال النكبة من خلال المذابح وحرق القرى على ساكنيها وغير ذلك. النزوع نحو السادية في إيقاع الخسائر بالخصم هي جزء من هذه السياسة الهادفة إلى جعل كل شيء مكلفاً والعودة للقتال أمراً مرهقاً نفسياً وجسدياً ومادياً.
إذا ما عدنا لبداية الحرب قبل أكثر من تسعة أشهر فإن جل الإشارات الصادرة عن قيادة دولة الاحتلال كانت تتحدث عن سنة أو سنوات حتى تحقق الحرب غايتها، وهي مدة قد تصل لخمس سنوات في أبعد تقدير، وإن كانت وتيرة الحرب ستشهد تحولاً مختلفاً سواء في منسوب استخدام النار أو في قوة العمليات وتواصلها، بحيث قد تكون الهدنة جزءاً منها وبالطبع يكون التفاوض على الهدنة جزءاً من استراتيجية الحرب. البعض يشير إلى أن مصادر تتوقع ان تستمر محادثات الهدنة أسبوعاً أو أسابيع، لا أحد يعرف لكن المؤكد أن نتنياهو سيعطل وربما بعض فريقه في الجيش الذي يوفر له الفرص في كل مرة. تذكروا كيف يتم تنفيذ عملية النصيرات حين اقترب الحديث عن هدنة، والآن نفس الشيء في خان يونس. ثمة من يسعى لأن تتواصل هذه الحرب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد