مع قرار المحكمة العليا الإسرائيلية حول تجنيد «الحريديم»، ومع بدء الإضراب التحذيري الذي يفترض أن يشلّ كافّة مناحي الحياة منذ صبيحة هذا اليوم، ومع حالة «القناعة» الرّاسخة بأن بنيامين نتنياهو كان يراوغ طوال الوقت، وأنه لم يكن معنياً أبداً بالذهاب إلى صفقة لإعادة الأسرى الإسرائيليين، وهو ليس معنياً لا الآن، ولا في المستقبل القريب على ما يبدو، فإنّ الاحتجاجات ــ كما تدلّ كل الوقائع ــ «ستلتحم» مع الإضرابات، وستتوازى معها إلى أن تدخل الدولة في مرحلة الانتكاس الذي سيتبع الشلل الذي سيكون عابراً لكل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، والذي سينعكس بصورة «نوعية» جديدة على الحياة السياسية، وعلى علاقات المجتمع السياسي في إسرائيل بعضه ببعض، ومع الجمهور الأوسع.
وإذا بقيت الأوضاع الميدانية في قطاع غزّة، وبقيت العمليات العدوانية على جانبي الحدود في جنوب لبنان، ناهيكم عن توسعها كمّاً ونوعاً.. فإنّ الأزمة الداخلية الإسرائيلية لن تستمر طويلاً قبل أن تُفضي إلى انفجارات سياسية واجتماعية يستحيل معها البقاء في منطقة المراوحة، وستفرض من الوقائع الجديدة ما يُنذر بالتوصل السريع إلى انعدام فرص احتواء تداعيات هذه الأزمة أو المغامرة في الانتقال إلى أخطر التهديدات السياسية والاجتماعية، بما في ذلك الدخول في مراحل من الصدام العنيف.
لم يعد الآن في دولة الاحتلال من يساوره الشكّ في الوصول سريعاً إلى هذا الواقع، وأغلب الظن أن المتابعين للشأن الإسرائيلي خارج دولة الاحتلال، وفي البلدان الغربية، وحتى من منطقة الإقليم هم، أيضاً، باتوا على نفس القناعة، وعلى نفس المستوى من هذه الشكوك.
أما إذا أضفنا إلى ذلك كله الأحاديث المتواترة حول الفشل الميداني في القطاع، وحول انعدام وسائل إدارة هذا الفشل فيما يتعلق بما يسمّونه بـ»اليوم التالي» للحرب الإجرامية، وخصوصاً الأحاديث التي باتت «تؤكد» بأن الجيش لم يتمكن بعد كل هذه الشهور الطويلة من الحرب من تدمير سوى 35-40% من قوات المقاومة الفلسطينية في القطاع، وأنّ هذا الجيش بات يفتقد إلى القوى البشرية المطلوبة للبقاء منتشراً في القطاع، وأنّ عليه الإسراع إلى «التجمّع» في مناطق معينة من بعض المفاصل والطرق المفصلية المتمركز فيها.. إذا أضفنا كل ذلك إلى الأزمة الخانقة التي تعاني منها الحكومة الفاشية حول بلوغ الاستياء العام في «الشمال» إلى ذروته الجديدة، وإلى حالة الإحباط واليأس التي باتت عليه قطاعات واسعة للغاية من هذا الجمهور، فإن الأزمة في إسرائيل ستكون قد أكملت إغلاق الدائرة، وباتت في أصعب حالة تمرّ بها منذ قيام الدولة العبرية، وحتى يومنا هذا.
وللتعبير عن هذا الواقع المرّ والقائم أشارت استطلاعات الرأي الأخيرة في دولة الاحتلال إلى جوانب تبدو من غرائبيات العصر كله.
فمثلاً وحسب هذه الاستطلاعات فإن حوالي 46% من المستطلعة آراؤهم عبروا عن تأييدهم لحرب على «حزب الله» اللبناني، بصرف النظر عن حجم الخسائر، وعن الثمن الذي يمكن لإسرائيل أن تدفعه بسبب هذه الحرب بالذات.
لكن نفس هذه النسبة، والتي تعتبر نسبةً عالية أفاد أكثر من 91% منهم بأنهم لا يثقون بقدرة الجيش على الانتصار في هذه الحرب؟!
فإذا كان 91% من المؤيدين والمتحمسين لهكذا حرب لا يثقون بأن جيشهم سيحقق الانتصار فلماذا تأييد الحرب إذاً؟
هل أصبحت الحرب في وعي قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي مطلوبة بحدّ ذاتها؟!
وماذا يعكس هذا الأمر من زاوية نمط السيكولوجيا لمثل هذه القطاعات الواسعة من الجمهور الإسرائيلي؟
هل هو مجرّد إحباط ويأس وصل إلى درجة عالية من «المعتوهية» الخاصة، أو من الأحقاد وحبّ الانتقام، حتى ولو أن هذا الانتقام أدى إلى الخسارة والدمار والأثمان الباهظة قد أوصل هذا الجمهور إلى هذه الحالة؟
لا أدّعي بأنّني أملك جواباً عن مثل هذه المفارقات، ويحتاج الأمر ربما إلى مختصّين أكثر درايةً وتعمُّقاً وتخصُّصاً منّي ومن غيري من المتابعين للشأن الإسرائيلي.
الشيء المؤكد أن هذا النوع من «الوعي» يمكن أن يقود إلى أعلى درجات الهياج، وقد «يحتاج» في طريقه كل عناصر العقلانية والاعتبارات «الوطنية»، وقد يحوّل حالة الصراع إلى حالة عبثية، وإلى عشوائية تُخرج الحالة عن الضوابط التي ظلّت حتى الآن ناظماً إلى هذه الدرجة أو تلك، وبهذا القدر أو ذاك لكل أشكال الصراع التي عرفناها.
أمّا إذا أضفنا إلى ذلك كله ما يجري في الضفة الغربية، وتحويل موارد دولة الاحتلال لأهداف المستوطنين، وتسخير هذه الموارد لما هو خارج السياق السياسي العام لمواقف العالم كله، بما سيضع الدولة العبرية حتماً أمام استحقاقات جديدة من المجتمع الدولي، ومن قبل مؤسسات القانون الدولي، وخصوصاً المحكمة الجنائية الدولية، فإنّها ستكرس في ذهن العالم صورة الدولة ليست المارقة فقط، وليست الفاشلة في إدارة أزماتها وحسب، وإنّما ستكرّس صورة الدولة المنفلتة من كل عقال، ويقودها مجموعة من المغامرين الذين لم تعد تهمهم الدولة نفسها، بقدر ما تهمهم الطرق والوسائل التي تمكنهم من مواصلة الحكم بالتحكم، ومن مواصلة تقويض مؤسسات الدولة لأهداف خاصة.
ربما سيغامر نتنياهو بعملية عسكرية غير شاملة تماماً، ولكنها ستبدو كذلك، وربما سيوافق الأميركيون على إعطاء «فريق الجنون» الذي يقود دولة الاحتلال الآن فرصة جديدة، أو فرصة أخيرة لكي تحاول أن تبدو على هيئة غير الهيئة التي هي عليها بالفعل.. ربما ستصل الأمور في الساعات والأيام القادمة إلى مثل هذا الوضع.. فما الذي سيتغيّر في واقع الأزمة الداخلية الإسرائيلية؟ وماذا ستحلّ هذه الخطوات من مفاصل ومن عقد هذه الأزمة المركّبة والشّاملة والمتداخلة إلى أبعد حدود التداخل؟
قلنا سابقاً إنّ دولة الاحتلال قد وصلت إلى الحائط، ولم تتوقّف هناك، وإنّما دخلت فيه.
وما كان يبدو قبل «طوفان الأقصى» العام المنصرم من أزمة مستعصية تعاني منها إسرائيل، وتهدد استقرار الدولة والمجتمع فيها يبدو وكأنه، بالمقارنة مع ما وصلت إليه أزمتها الآن مجرّد أعراض عابرة ليس أكثر.
وحتى نفهم ونتفاهم على طبيعة هذه الأزمة أرى أن نعتمد على عدة مقاييس لإدراك أبعاد هذه الأزمة.
هل تمّت حلحلة مفاصل من هذه الأزمة منذ ما قبل «الطوفان»، وفي أثنائه حتى الآن، أم ان أزمات جديدة تضاف إلى الأزمات السابقة بأبعاد جديدة، وبأشكال أكثر عمقاً وخطورة ما زالت تتوالى تباعاً؟
هل فعلاً أن المشكلة الناتجة عن وجود شخص على رأس هذه الحكومة مثل نتنياهو هو العنوان الأساس والرئيس لهذه الأزمة، أو الأزمات أم ان مثل هذا الشخص هو مجرّد مظهر من مظاهرها الحادّة؟
وهل الذهاب إلى انتخابات مبكّرة هو في متناول اليد، أم ان إجبار التحالف الحاكم في إسرائيل للتوافق عليها هو بحدّ ذاته مسألة تحمل في ثناياها خطورة الانزلاق إلى حروب داخلية طاحنة؟
ثم من أين للبعض هذا اليقين من أنّ «سقوط» «اليمين الفاشي» في الانتخابات أصبح بحكم المؤكّد؟!، ومَن قال إن هذا «اليمين الفاشي» سيكترث بوجود الدولة و»استقرارها» إذا ما شعر أنه بات خارج نطاق «التحكّم والحكم»، وأنه سينضبط للقواعد المعهودة في تداول السلطة؟!
وهل هزيمة «اليمين» ستعني القدرة على الانتصار مستقبلاً، أم ان القدرة على الانتصار لم تعد بسبب «اليمين» أو «الوسط» أو «اليسار»، وأنّ الأزمة تحولت إلى أزمة مرتبطة بالدور والمكانة والوظيفة لكل المشروع الصهيوني، وأنّ الانسداد التاريخي الجديد هو انسداد في طبيعة المشروع وليس في مَن يحكم ويدير هذا المشروع؟
بكل هذه المقاييس فإن الأزمة الإسرائيلية الداخلية تدخل أطواراً جديدة في كل يوم، وهي تنتقل وتتنقّل من منحى إلى آخر، ومن قطاع إلى قطاع جديد، ومن السياسة نحو الاقتصاد، ومن الاقتصاد نحو السياسة ومن المجتمع الى الدولة ومن الدولة الى المجتمع، من النظام السياسي إلى هوية هذا النظام، ومن القواعد «الديمقراطية» إلى أشكال مغلّفة من الديكتاتورية.
أزمة يختلط فيها المصيري بالوجودي، ويتشابك من خلالها «الشرعي» لهذا الوجود بالممكن من المصير؟!
كل ما يدور حوله الحديث عن «حلول» لهذه الأزمة ليس سوى ترقيع هنا وآخر هناك، وليس سوى مداورات ومراوغات واستدارات من خارج حقيقة هذه الأزمة، وفي محاولة باتت يائسة للتستر عليها.
الأزمة الإسرائيلية ببساطة هي أزمة مشروع، استنفذ احتياطاته الاستعمارية الكولونيالية، لكنه يرفض التسليم بهذا الواقع، وما زال يراهن على ما لا يمكن المراهنة عليه. وهذا بالذات هو أخطر مظاهر الأزمة في الواقع.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية