لم يكن أحد يتوقع، ولا حتى قادة حماس أنفسهم، أن تصمد حركتهم في مواجهة حرب إسرائيلية منفلتة من عقالها، تسعة أشهر كاملة، بدليل أن قائد أركان القسام محمد الضيف، طلب من جميع محاور المقاومة المشاركة في الحرب، لحظة أعلانه «طوفان الأقصى» لإدراكه بأن الحركة لا يمكنها الوقوف في وجه الاجتياح العسكري الإسرائيلي مدة أيام معدودة، لكن ما حدث يشبه المعجزة، وصحيح بأن عدة محاور للمقاومة قامت بإسناد غزة ، إلا أن جملة من العوامل التي رافقت أطول الحروب التي تخوضها إسرائيل منذ قيامها، تفسر سبب عدم انهيار حماس والمقاومة في غزة، كل هذه الفترة، وتشير الى أن علاقة إسرائيل بالمنطقة قد دخلت منعرجاً جديداً، لا يسر الإسرائيليين جملة وتفصيلاً.

ولأن الحروب تقيّم بنتائجها، أي بتحقيق أهداف من أطلقها، فإن القراءات ومن ثم القرارات العسكرية والسياسية، تبدأ ولا تنتهي بعد توقف عجلة الحرب عن الدوران، ورغم أن إسرائيل بقيادتها اليمينية المتطرفة الى حدود الفاشية، قد تجنبت الحديث منذ اليوم الأول للحرب عن أهدافها الحقيقية، وذلك لأن الحرب بدأت من جانب اسرائيل برد فعل عصبي، بل مجنون، نجم عن وقوع «طوفان الأقصى» كالصاعقة فوق رأسها، إلا ان الحقيقة هي أن قادة اسرائيل لم يتفقوا على أهداف محددة للحرب، فمنهم من ظن بأنه يمكن لإسرائيل أن تفعل كل ما يحلو لها، فطالب بضرب غزة بالقنابل النووية، ومنهم من طالب بتهجير سكان قطاع غزة، واعادة احتلالها واستيطانها، ومع تطور الأحداث، أو مع مرور الوقت، استقر رأي قادة الحرب الإسرائيلية على هدفي إعادة المحتجزين، وتدمير حماس عسكرياً وسياسياً، وضمان عدم تشكيل غزة لأي تهديد مستقبلي.

الآن تستعد اسرائيل لإعلان المرحلة الثالثة من الحرب، وذلك لتجنب الإعلان عن وقفها، او انتهائها، لأن اسرائيل تريد ثمناً لذلك الإعلان، نقصد إعلان انتهاء الحرب، وهو ان تنتهي الحرب باتفاق، وذلك لأنها لم تحقق هدفها بتحرير المحتجزين بالقوة العسكرية، كما كان يعربد نتنياهو وجوقته، كذلك لم تحقق إسرائيل هدف سحق المقاومة، بدليل أن يحيى السنوار ما زال لا يقبل برفع الراية البيضاء، عند الحديث عن صفقة تبادل المحتجزين بالأسرى، ولأن المقاومة ما زالت تلحق الخسائر البشرية في صفوف الجنود الإسرائيليين الذين أرهقتهم الحرب، بل وتطلق بعض الصواريخ على الداخل الإسرائيلي.

واذا كانت حماس لم تذعن وهي تحت الضغط الميداني، كما برر مواصلة الحرب المدمرة، بما في ذلك اجتياح رفح، كل من نتنياهو ويوآف غالانت وزير حربه، في ظل مفاوضات صفقة التبادل، فكيف ستتراجع عن شروطها التي تتضمن وقف الحرب وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وعودة نازحيه الى بيوتهم، ومن ثم إعماره، وذلك عبر ترابط المراحل الثلاث ضمن خطة الرئيس الأميركي جو بايدن الأخيرة المطروحة على طاولة التفاوض؟ بالطبع استمرار الحرب بوتيرة اخرى، المعنونة بالمرحلة الثالثة، التي تتلخص في القصف الجوي، واستخدام تكتيك التوغلات المتلاحقة، كما تفعل القوات العسكرية الإسرائيلية في مدن جنين وطولكرم و نابلس ، لا يعني وضع حماس تحت الضغط لإجبارها على قبول «هدنة» مؤقتة، أو وقفاً مؤقتاً للحرب، كما كانت تريد إسرائيل من صفقة التبادل، وهي التي ما زالت تقاوم، وبشدة في رفح أكثر مما حدث في شمال قطاع غزة، أو في مدينة غزة.

لا شك بأن نتائج الحرب كانت وخيمة على الجانب الفلسطيني، خاصة فيما يخص الحياة المدنية في قطاع غزة، وفي الضفة الفلسطينية أيضاً، حيث وقع قتل جماعي نجم عن مئات المجازر بحق العائلات والأسر، التي كانت تلجأ للمستشفيات والمدارس وحتى في منازلها، كذلك وقع تدمير مهول، كأنه نجَم عن تفجير عدة قنابل نووية، فأكثر من 70% من منازل السكان تدمرت، كما تدمرت البنية التحتية بالكامل، واصبحت غزة _تقريباً_ أو الى حدود ما غير قابلة للحياة، أما على الصعيد العسكري، فإن تقديرات الغرب تشير الى أن نحو 14 ألف عنصر من المقاومة قد استشهد، وذلك من أصل 40_50 ألفاً كما كانت تشير التقديرات، أي نحو ثلث عناصر المقاومة قد استشهد في الحرب، كما تدمر جزء كبير من الأنفاق، وربما أطلقت المقاومة معظم ما لديها من عتاد وسلاح، بما يعني عدم قدرتها في ظل احتلال ممر فيلادلفيا التي تقدر إسرائيل بأنه منفذ تهريب السلاح للمقاومة في غزة، على العودة لمهاجمة إسرائيل مجدداً، كل هذا محتمل ولكن،،،

إسرائيل من جانبها لحقها من «حبها للحرب جانب»، فهي لأول مرة تدخل حرباً تطول الى هذا المدى الزمني، وكانت معتادة على خوض الحروب الخاطفة، لذا فقد ظهرت كدولة هشة، غير قابلة للصمود في وجه تحدٍ حقيقي دون مشاركة أميركية مباشرة، وعلى كل المستويات، ثم أنها دخلت حرباً لم يقتصر ميدانها على أرض العدو، كما اعتادت دائماً، أن تجعل من أرض الغير ميدان الحرب المدمرة، بانعكاساتها على مدنيي الغير، وهي هذه المرة وجدت مدنها إن كانت تلك التي في الجنوب، أي في غلاف غزة، أو في الشمال، حيث الحدود مع لبنان، عرضة للصواريخ والمسيّرات، أي للقصف، الأمر الذي نجم عنه تهجير أكثر من مئة ألف اسرائيلي، كما تقدر الأوساط الإسرائيلية بأن تكلفة الحرب قد بلغت أكثر من 35 مليار دولار حتى الآن، هذا إضافة الى الثمن الباهظ، بل الأشد فداحةً بالنسبة لإسرائيل، وهو سقوط الضحايا، الذين لم تشهد مثيلاً لهم في العدد، إلا في حرب العام 73، إضافة بالطبع الى الخسائر الاقتصادية، والأهم من كل هذا الخسارة الفادحة على صعيد المكانة الدولية.

فقد ندد العالم بأسره بإسرائيل، الدولة التي باتت ملاحقة بتهم ارتكاب حرب الإبادة الجماعية، ومجازر الحرب، من قبل القضاء الدولي، وحيث جابت مدن العالم وعواصمه، بما في ذلك عواصم ومدن الغرب، وفي المقدمة المدن الأميركية والبريطانية، تظاهرات تندد بالجرائم الإسرائيلية، وباتت حكومات العالم، بما في ذلك الدول الغربية، باستثناء   أميركا، تطالب بإقامة الدولة الفلسطينية، وتطبيق حل الدولتين فوراً، لتجنيب الشرق الأوسط حرباً إقليمية ولتجنيب العالم حرباً عالمية ثالثة.
وإذا كانت إسرائيل بحاجة الى سنوات «لترميم» ما لحق بها من مهانة ومذلة، بل ومن «هشاشة عظام» عسكرية، وهي تواجه جبهة ضعيفة نسبياً نظراً لمحدودية مساحة قطاع غزة، وطبيعته الجغرافية غير الوعرة، والأهم نظراً لحصاره، وعدم وجود خطوط اتصال او تواصل مع المحيط، خاصة الحليف منه، أي محاور المقاومة الإقليمية، فكيف كان سيكون حالها لو أنها واجهت محور المقاومة بكل مكوناته معاً، وقد أدركت أميركا هذا المعطى بالحرص منذ اليوم الأول للحرب على عدم توسيع رقعتها، ورغم أن الصورة بعد كل هذا الوقت واضحة كعين الشمس للقاصي والداني، فإن نتنياهو وجوقته ما زالوا يطلقون الكلام الفارغ، من مثيل إطلاق الحرب في الشمال مع حزب الله.

أما حماس فقد سارعت على الفور ليس فقط في إعادة ترتيب إدارة الحكم في كل شبر تخرج منه القوات الإسرائيلية، بل في تجنيد وتدريب مقاتلين جدد، لتعويض من استُشهدوا في الحرب، وهذا يعني بأن هذه الحرب، ما كانت إلا حلقة ضمن سلسلة من الحروب المؤكدة، ما دامت إسرائيل تناطح المستحيل، والمستحيل هو أن يستتب الأمن والسلام مع الاحتلال.

ولأن إسرائيل أعلنت فعلاً عن قرب انتهاء العملية العسكرية في رفح، وهي آخر محطات الحرب على قطاع غزة، والدخول للمرحلة الثالثة، وذلك في ظل تصاعد ازمة الشراكة بين بايدن ونتنياهو، وفي ظل تواصل المعارضة الداخلية لتكتيك نتنياهو في الحرب، خاصة الفصل المتعلق بعدم إتمام صفقة التبادل، وبعد خروج بيني غانتس من مجلس الحرب، فإن واشنطن تراهن على غالانت، لأنها تجد صعوبة فائقة في مواصلة الشراكة مع ثالوث إسرائيل الفاشي، أي نتنياهو، بن غفير، سموتريتش، فيما تواصل استطلاعات الرأي إظهار تقدم غانتس وحزبه على نتنياهو والليكود، أشارت التقديرات الى أن ظهور حزب يميني يجمع كلاً من افيغدور ليبرمان، جدعون ساعر، يوسي كوهين ونفتالي بينت، سيقلب الطاولة تماماً، وسيحتل مقدمة المسرح السياسي في إسرائيل، بما يضع حداً لمشكلة إسرائيل المتواصلة منذ سنوات، المتمثلة في نتنياهو شخصياً، والذي كان آخر ما فعله بإسرائيل، أن سلم مقودها لبن غفير وسموتريتش، بما جعل من حربها على غزة بمثابة كارثة سياسية دولية لها، ولم يقتصر الأمر بذلك لا على فشل استخباراتي أو أمني، بل على مستقبل يصطدم فيه رأس إسرائيل بالحائط، فهل تعود «الحكومة البديلة» وإن بتركيبة مختلفة للحكم، بعد الإطاحة بنتياهو التي تعني هذه المرة، ما هو أهم، أي الإطاحة ببن غفير وسموتريتش، وقطع الطريق على الفاشية الإسرائيلية؟!.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد