إذا أردنا أن نلخّص النتائج الحقيقية للحرب التدميرية الإسرائيلية على قطاع غزّة، وعلى الضفة الغربية و القدس ، حتى الآن في جملة واحدة أو جملتين، أو أن نعطي للسابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 وصفاً جوهرياً مكثفاً لما أحدثه في الواقع.
يمكننا أن نحدّد ذلك على الوجه التالي:
فقدت دولة الاحتلال بعد مضيّ أكثر من ثمانية أشهر ونصف الشهر على هذه الحرب الدموية زمام المبادرة الإستراتيجية في هذا الإقليم.
وعندما تفقد، أيضاً، زمام المبادرة الإستراتيجية والتي هي عنوان التطرّف والعنصرية، وكذلك الهيمنة والعدوانية والتوسّعية، فإنها تكون قد خسرت أهمّ ميزاتها وامتيازاتها، وتكون قد أصبحت في وضع الانكفاء الإستراتيجي، وتكون قد بدأت، وربما دخلت في مرحلة جديدة لم تعتد عليها سابقاً، ولم تعتد عليها حتى الآن، وليست جاهزة للتكيّف مع مقتضياتها الموضوعية، بما في ذلك دورها ومكانتها، وحدود قوتها وجبروتها، وقدرتها "للمحافظة" على ما حققته من مكاسب، وما راكمته من مزايا، وما كانت عليه من تفوّق، وما كان لديها من إمكانيات على مدى كامل عمرها السياسي الذي امتدّ حتى الآن إلى العقد الثامن.
واحتاجت دولة الاحتلال لحرب تدميرية شاملة، استخدمت خلالها كل قوتها العسكرية، ولجأت إلى الحماية الأميركية المباشرة، وإلى كامل مخزوناتها من العتاد وإلى حاملات الطائرات والبوارج الأميركية و"الغربية"، وهرع "الغرب" كلّه "لنجدتها"، وسخّر كل إمكانياته العسكرية المباشرة في مدّها بالأسلحة، وبالخبرات الأمنية والاستخبارية، واستخدم جزءاً رئيساً في منظومة دفاعه الجوي في مواجهة الهجوم الإيراني على الدولة العبرية بعد حادث الاعتداء الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق.. احتاجت كل هذا لمواجهة فصائل فلسطينية محدودة الإمكانيات بكل المقاييس، ومحدودة في العدة والعتاد، ومحصورة في بقعة جغرافية مكشوفة بالكامل للطيران الإسرائيلي على مدى عقود كاملة، ومحاصرة بالكامل منذ أكثر من سبعة عشر عاماً على كل المستويات.
ولجأت، أيضاً، إلى تدمير المدن الفلسطينية في القطاع، ومحو مناطق كاملة من الوجود، و"إعدام" البنى التحتية كلها دون استثناء، وإلى قتل وجرح عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين حتى "تقنع" نفسها أنّها استطاعت أن تحقق لمجتمعها شيئاً تقدمه كتعويض عن الهزّة العنيفة التي تعرضت لها وجيشها، والتي كادت تزلزل أركان وجودها كلّه.
وعلى مدار أشهر الحرب الإجرامية الطويلة أخفقت دولة الاحتلال في كل شيء ولم تترك خطأ أو خطيئة إلّا واقترفتها.
فقد وضعت نفسها في ظل حرب الإبادة الجماعية والتجويع والهمجية في موقع الدولة المارقة والمنبوذة، ومع كل مؤسسات القانون الدولي بدت في قفص الاتهام، وخسرت قطاعات اقتصادية بكاملها، وتداعت فرقها وألويتها العسكرية، ولم تظهر قوة ردعها إلّا في القتل والتدمير.
وتعرضت صورتها عن "الدولة الديمقراطية والريادية" إلى التهشيم، وتحولت في نظر شعوب الأرض إلى دولة إجرام وإرهاب منظّم.
ومنذ اليوم الثاني لاندلاع هذه الحرب الهمجية دخل "حزب الله" اللبناني على خط الحرب مباشرة بخطة تبدو الآن على الأقل أنها مُحكمة ومدروسة وهادفة، وتضمنت تدميراً منهجياً لوسائل الرصد والتجسّس، وإلى "تليين" بعض القواعد والمعسكرات، وإلى قياس القوة التدميرية لبعض أسلحة وصواريخ ما لدى المقاومة في لبنان، ولقياس دقة الإصابة وإلحاق الأضرار.
ومنذ الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام الماضي تمكنت المقاومة في لبنان من إشغال ومشاغلة ما لا يقل عن ثلث القدرات البشرية الفاعلة للقوات العسكرية الإسرائيلية، والتي أكثر من نصفها قوات احترافية، وتعتبر من القوام الرئيس للقوى البشرية المقاتلة في جيش الاحتلال.
ولم يمرّ ولا حتى أسبوع واحد، وأحياناً لم يمر يوم واحد من دون أن تطلق دولة الاحتلال التهديدات العلنية المدوية حول تحويل لبنان إلى دولة تعيش في العصور الحجرية، وإلى "تسوية" الضاحية الجنوبية بالأرض على غرار ما فعلته وتفعله في غزّة من محو كامل لأحياء بكاملها، ومن قتل المدنيين فيها من دون أي حساب أو شفقة أو رحمة، ومن دون أي خوف من تبعات هذا التوحُّش والإجرام.
ماذا كانت النتيجة حتى الآن؟
أصبح بحكم المؤكد أن تدميراّ كبيراً قد لحق ببنية الرصد والتجسّس، وتم شلّ الحياة في المستوطنات المحاذية لجنوب لبنان، وتهجير أكثر من 100 ألف من القاطنين فيها، والذين لم يتم تهجيرهم يعيشون تحت رعب الانقضاض عليهم في أيّ لحظة، وهم ينامون ويستفيقون على أصوات صافرات الإنذار، وعلى دويّ سقوط الصواريخ، إضافةً إلى الدخان والحرائق والانعدام الفعلي لأيّ مظهر من مظاهر الحياة العادية.
في ضوء كل ما تقدم هل ستغامر دولة الاحتلال بشن حرب شاملة على لبنان؟
جوابي عن هذا السؤال هو التالي:
لا يمكن من زاوية المنطق العسكري لهذه الحرب أن تُقدِم الدولة العبرية على شنّ مثل هذه الحرب، وذلك للأسباب التالية:
الحرب الشاملة على لبنان ستعني بالضرورة الحرب الكبرى أو الشاملة في كلّ الإقليم.
وهذا معناه ببساطة أنّ حرب كهذه لا بدّ أن تتدخّل بها - وعند درجة معينة من تدحرجها وتطورها - فصائل المقاومة العراقية بصورة مختلفة عن تدخلها الحالي، وأن تدخل جماعة الحوثيين في اليمن بصورة مختلفة عن تدخلها الحالي، وأن تدخل سورية في هذه الحرب لأنها لن تغامر، ولأنّ إيران، أيضاً، لن تغامر أن تترك "حزب الله" اللبناني وحيداً في معركة كهذه، خصوصاً أن الحزب هو في نهاية المطاف الذراع الأقوى لإيران، والقوة الضاربة للدولة السورية، ومن المستحيل ألا يهبّا معاً لنجدته إذا اقتضت الضرورة، وقد لا يطلب الحزب هذه النجدة - كما أرى - وذلك لاعتقاده بأنّ دخولهما على خط الحرب قد يتأخّر قليلاً لأسباب تكتيكية عسكرية مخطّط لها مسبقاً.
لكن المهمّ هنا أنّ الولايات المتحدة، و"الغرب"، وبعض قوى الإقليم ليست من مصلحتها الدخول إلى مواجهة كهذه، وذلك للأخطار الإستراتيجية لمثل هذه الحرب بما في ذلك الأخطار على الممرات التجارية العالمية، وعلى مصادر الطاقة، وعلى القواعد "الغربية" في كل المنطقة، وعلى أخطار الانزلاق إلى استخدام وسائل غير تقليدية في مثل حرب كهذه.
لا مجال للمباغتة في مثل هذه الحرب، ولا مجال لأن يحسم الطيران الحربي الإسرائيلي هذه الحرب حتى لو شنّ هجمات بمئات الطائرات، وعلى مدى عدّة أيام أو حتى أسابيع لأنّ المقاومة في لبنان حسبت حساباتها على هذا الصعيد، وعلى كل الاحتمالات الممكنة.
وأظنّ أن المقاومة في لبنان قد أعدّت نفسها للرد على الهجمات العدوانية الإسرائيلية، مهما كانت كبيرة ومكثفة بعشرات آلاف الصواريخ الثقيلة والدقيقة بحيث تتمكن من تدمير جزء كبير وحيوي من القواعد اللوجستية للحرب، ومن البنية التحتية الحيوية، بما فيها المطارات والطرق والجسور، ومصادر الطاقة والموانئ، وكل ما له علاقة بوسائل العيش التي اعتادت إسرائيل أن تبقيه على حاله أثناء حروبها السابقة كلها.
وخلاصة القول هنا: إن الولايات المتحدة من زاوية أوضاعها الداخلية، ومن زاوية حساسية مرحلة الانتخابات تحديداً، ومن زاوية مخازن الذخيرة لديها، وما لدى "الغرب"، ومن زاوية "مخاوفها" الخاصة للغاية على تماسك الدولة الصهيونية وعدم انهيارها، ومن زاوية الأوضاع الدولية، خصوصاً الصراع مع روسيا في أوكرانيا، ومن زوايا لا تعدّ ولا تحصى.. خلاصة القول: إنّ الولايات المتحدة إذا وافقت على حرب كهذه، وبهذا الشمول، وبهذا الاتساع، فإنّها تكون قد فهمت وتيقّنت أنّ دولة الاحتلال على مشارف هزيمة ساحقة وماحقة، وأنّ مثل هذه الحرب قد تكون المخرج الوحيد لكي يُعاد "إدغام" الهزيمة في ترتيبات جديدة قد تكون ممكنة في إطار نتائج مثل هذه الحرب الشاملة.
وإذا وافقت الولايات المتحدة على حرب شاملة على لبنان تشنها الدولة العبرية، فإنّ الولايات المتحدة نفسها تكون فهمت أنّها قد هُزمت في إطار الهزيمة الإسرائيلية، وأنّ عليها هي نفسها أن تحاول ترميم ما يمكن ترميمه بالمراهنة عليها.
بل وفي ظنّي أنّ الولايات المتحدة إذا وافقت على حرب كهذه، تكون هي نفسها ترغب في «إلغاء» الانتخابات الأميركية، وإعلان حالة الطوارئ بحجّة الحرب، وتكون أمام حرب مصيرية على مكانتها الدولية كلّها.
لا أظنّ أنّ الأمور قد وصلت إلى هذا المفترق بالنسبة للولايات المتحدة، وبالنسبة لـ»الغرب»، ولهذا فإنّ الحرب الشاملة مستبعدة تماماً، وأقصى ما «ستسمح» به الولايات المتحدة هو الذهاب إلى «حربٍ» محدودة في المكان والزمان والعمق والحدّة والدرجة.
إذا كان الأمر كذلك، وأظنّه كذلك، فإنّ المقاومة في لبنان ستعرف كيف تتعامل مع هذا الأمر، وهي ستعرف كيف ستدير المعركة في حينه، وستعرف ماذا، ومتى وكيف بأدقّ تفاصيلها.
ثم إنّ هناك الطريق الأقصر، وهو الذهاب إلى صفقة في غزّة تستجيب لشروط المقاومة العادلة والمحقّة والممكنة، فلماذا الحرب إذا كانت أميركا تعرف حقّ المعرفة أنّ اليوم الذي سيقف فيه إطلاق النار في غزّة، هو نفسه الذي سيتوقف فيه إطلاق النار على «الحدود» مع لبنان؟
الورطة الإسرائيلية أكبر وأعمق من أن تحلّها حرب محدودة أو استعراضية، والورطة الإسرائيلية ليس لها من مخرج سوى مخرج واحد، وهو الاعتراف الضمني، إذا لم يكن الصريح بأنّ الحرب على القطاع قد فشلت، وهي ليست قابلة للتغيّر أو التغيير إلّا نحو الأسوأ بالنسبة لدولة الاحتلال.
فقط بهذه الطريقة، وعلى هذا الأساس، يمكن للولايات المتحدة أن تخلّص دولة الاحتلال مؤقّتاً، ومؤقّتاً فقط، من ورطتها التي أصبح المجتمع الإسرائيلي يدرك حقيقتها شيئاً فشيئاً.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية